طريق الشعب

في أجواء الانتفاضة التي يشهدها العراق منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لا يكتفي المنتفضون بفعاليات التظاهر ورفع الشعارات المطلبية وحسب، بل أنهم يعمدون، في أوقات الراحة، إلى التعرف إلى بعضهم البعض عن كثب.. من هنا بدأت تعقد حلقات نقاشية مسائية في ما بينهم.

في ميادين الاحتجاج ببغداد وبقية المحافظات، يتلاشى برد ليالي المتظاهرين الطويلة في الخيام من خلال النقاشات التي ينخرطون فيها حول مستقبل الوطن الذي يتطلعون إليه.. وطن خال من الطائفية والفقر والبطالة. وتنظم الحوارات عادة بحسب جدول محدد، ويُناقَش في كلّ ليلة موضوع يتعلق بمشكلة حالية أو بكيفية معالجة شؤون مستقبلية معيّنة.

ويرحّب المحتجّون بالتجمّعات والخيم الثقافية والتوعوية التي يجري فيها التطرق إلى كيفية بلوغ حلمهم بمستقبل مشرق لوطنهم، متّفقين على أنّهم سوف يواجهون أيّ حكومة مقبلة لا تحقّق رغبات الشعب، عبر تظاهرات مماثلة للتي يشاركون فيها اليوم.

وعلى الرغم من برودة الجو على ضفّة نهر دجلة قرب ساحة التحرير، والتي أطلق عليها "شاطئ التحرير"، يصرّ متظاهرون على التجمّع هناك، وقضاء الليل في التحاور مع بعضهم البعض.

الناشط قصي العبيدي، من بين المتظاهرين الذين يجتمعون كل مساء في خيمة تطل على "شاطئ التحرير".

يقول في حديث صحفيٍ، أنّه لم يتعرّف إلى هؤلاء الرفاق إلا خلال الاحتجاجات، واصفاً إيّاهم بـ"الوطنيين"، ومشيراً إلى أنّ "نقاشاتنا تحتدم أثناء الليل".

ويضيف العبيدي قائلا: "صحيح أنّنا نختلف في الرأي أحياناً، غير أنّنا نتعانق ونحيّي بعضنا بعضاً قبل أن نفترق"، مؤكداً أنّ "ثمّة حالة وعي كبيرة تُسجَّل هنا في حلقات نقاش المتظاهرين. مثل هذا كنّا نشاهده بين الصحافيين والمثقفين في المؤسسات الإعلامية والمنتديات والنوادي والمقاهي الثقافية، أمّا هنا فالشباب هم الذين يشاركون في تلك النقاشات، وبعضهم لم يكمل تعليمه الثانوي".

وعن المواضيع التي تُطرَح ويناقشها المحتجّون في حلقاتهم المسائية أو النهارية، يقول أمجد كريم، وهو طالب في المرحلة الثانوية، إنّها "غير محدّدة إجمالاً، لكنّها بالتأكيد هادفة ومفيدة".

ويضيف في حديث صحفي: "أتنقّل بين المجموعات الكثيرة التي تنتشر في مواقع الاحتجاج، لأحضر جلساتها. وأشعر بحماسة كبيرة حين أشارك في النقاشات التي تتناول مستقبل العراق وما يتعلق بضرورة الاستمرار في الصمود والتضحية من أجل هذا المستقبل الذي نرسمه في مخيلتنا بألوان زاهية".

"الصمود" و"التضحية" و"الوفاء لدماء الشهداء" شعارات تتكرّر بين المتظاهرين، لتساهم في رفع معنوياتهم، وتحثّهم على المضيّ قدماً في ما بدأوه. ويزداد المحتجّون قوّة وإصراراً على الاستمرار كلّما حقّقوا "نصراً" - بحسب توصيفهم.

في هذا الإطار، يؤكد جعفر الأسدي، أنّ ما يتحقّق هو على خلفية "صمودنا وتحدّينا".

الأسدي الذي يحمل في جسده "تسعة أوسمة" - بحسب وصفه، في إشارة منه إلى الإصابات التي تعرّض لها جرّاء العنف الذي تستخدمه القوات الأمنية في قمع التظاهرات، يبيت أكثر أيّام الأسبوع في ساحة التحرير، بعيداً عن زوجته وابنه الصغير الذي ولد قبل اندلاع التظاهرات بثمانية أشهر.

يوضح الاسدي في حديث صحفي، أنّ ما يدفعه إلى مواصلة الاحتجاج هو "مستقبل ابني الذي يعني لي مستقبل بلدي. فبلدي مثل ابني وعليّ أن أساهم في بناء مستقبله"، موضحا انه يحمل شهادة البكالوريوس في الإدارة والاقتصاد، لكنه لم يحصل على تعيين، ما اضطر إلى العمل في بيع الملابس المستعملة (البالات).

ويتابع قوله: "ليس ذنبي أن لا أعمل ضمن اختصاصي الدراسي، بل انه ذنب الجهات الحكومية التي لم تحسن التخطيط لتوفير فرص عمل لأصحاب التخصصات والخبرات"، مستدركا في قوله: "لكنّه يصير ذنبي وذنب الشباب اليوم في حال تراجعنا. ولهذا نحن نضحّي ونصمد لتصحيح الأخطاء عبر تظاهراتنا السلمية".