شاكر فريد حسن

تمر في هذه الأيام ذكرى وفاة القائد والمناضل والمفكر والمعلم والانسان ، الدكتور اميل توما ، أحد القادة التاريخيين لعصبة التحرر الوطني الفلسطينية والمنظرين للحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية ، الذي رحل عن الدنيا في السابع والعشرين من آب 1985 ، بعد حياة عريضة حافلة بالعمل والنشاط والنضال والفكر ، تاركًا وراءه ميراثًا فكريًا وسياسيًا نيّرًا ضخمًا وعظيمًا ، وباعتراف الجميع أنه تاريخ شعب .

اميل توما واحد من عمالقة الفكر الوطني الفلسطيني الماركسيين ، وواحد ممن كرّسوا وقتهم وحياتهم لقيادة نضال الشعب الفلسطيني في الداخل وللتأريخ للقضية الفلسطينية ولمسيرة التحرر العربي عبر نهج يتجاوز بشموليته جميع المجالات التي سبقته .

كان اميل توما انسانًا متعدد الاهتمامات معطاء في العديد من المجالات . كان قائدًا ومنظرًا في الحزب الشيوعي ومؤرخًا للحركة الوطنية الفلسطينية وحركة التحرر القومي العربية وناقدًا أدبيًا وباحثًا في الثقافة العربية والتراث العربي ، وواحدًا من ابرز واهم المثقفين التقدميين العضويين والمفكرين الذين فضحوا الهوية الطبقية والايديولوجية الرجعية العنصرية للحركة الصهيونية ، عدا عن كونه صحفيًا وكاتبًا لامعًا فذًا .

وكان مناضلًا سياسيًا ، ناكرًا للذات ، امتزج البحث الفكري والممارسة معًا في شخصيته المتواضعة ونشاطه العملي ما جعله نموذجًا ومثالًا يحتذى للثوري الحقيقي .

تميز اميل توما بإنسانيته الصادقة العميقة ، وتجلت في شخصيته وحدة النظرية والممارسة الثورية ، وكان متمسكًا بصلابة بالفكر الايديولوجي الماركسي - اللينيني ، الذي في صلبه مصلحة الانسان واحترامه ، وكان في تعامله مع الآخرين يطبق هذه الانسانية الثورية .

وقد كان لي الشرف الكبير بالتعرف الى الراحل اميل توما لأول مرة عندما استضفناه في نادي الحزب الشيوعي في قريتنا " مصمص " ، حيث القى محاضرة عن مجلة " الجديد " ودورها الكفاحي والريادي في العملية الثقافية والحراك الأدبي ، وكنت يومها قدمته للجمهور وتحدثت عن مساهماته الفكرية والتاريخية والثقافية ومسيرته الكفاحية .

قدّم اميل توما للفكر التحرري والتقدمي الفلسطيني والعربي خدمات جليلة وأغناه بتراث واسع من البحث وخاصة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني الحديث المعاصر ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني على ارض فلسطين .

اضطلع اميل توما في حياته بمهمات ومسؤوليات متعددة وهامة وحيوية . فقد كان صاحب جريدة " الاتحاد " ومحررها المسؤول ومن مؤسسيها ، وكان رئيسًا لتحرير مجلة " الجديد " ، وكان قبل هذا الأمين العام لعصبة التحرر الوطني ثم أحد القادة البارزين في لجنة الدفاع عن الاراضي ، اضافة لمسؤوليات ومناصب حزبية كثيرة .

كان اميل توما بفكره وممارسته رمزًا ساطعًا لحزبه وايديولوجيته ، رمزًا ساطعًا لتمازج المصالح القومية الحقة بالمصالح الثورية الاممية ، ورمزًا ساطعًا للدور القيادي التاريخي للحزب الشيوعي ، وبرهانًا حيًا ساطعًا على أن قيادة الطبقة العاملة الثورية هي الاجدر والاقوى والاكثر تفانيًا في قيادة الكفاح الوطني الثوري التحرري .

اميل توما رغم ثقافته وقوة شخصيته وجبروته الفكري كان انسانًا بسيطًا متواضعًا لأبعد الحدود يشيع الالفة والود من حوله ، ويوجد اللسان واللغة المشتركة بينه وبين الناس البسطاء من مختلف الاعمار والاجيال .

كتب الراحل اميل حبيبي غداة رحيل اميل توما ، قائلًا : " من الورد الى الورد يعود ، اكليلنا تاج رأسنا وفؤاد جليلنا – اميل توما المؤسس والمعلم والميراث والوصية ، الاخ والرفيق .  رب أخ لم تلده أمك ، أما هذا الأخ ، الرفيق ، فقد ولدته أمي ، ولدته أمنا – هذا الشعب .

من الورد الى الورد يعود بعصارة القلب والفكر جاء وبه جدنا بأمثاله نجود . الى التاريخ نجود به .

الى شعبه وحزبه وجبهته وجريدته نجود به وجيلنا يجود به . وبهذه الاجيال الشابة نجود . ويبقى اميل في الارض وأما الزبد فيذهب جفاء . من الورد الى الورد يعود وسوف نعود " .

وتبقى مسيرة حياة اميل توما تمثل امامنا وامام الاجيال اللاحقة نموذجًا حيًا للأصالة الثورية ، للربط المبدع بين الفكر والممارسة الثورية ، بين الوطنية والأممية ، بين الوفاء لقضية السلام ولقضية الكفاح من اجل حرية الشعوب في اوطانها .

واخيرًا ، ذكرى اميل توما واعماله العظيمة وتراثه الكبير، ومسيرة حياته الكفاحية ستبقى جزءًا ساطعًا من تاريخ الكفاح الوطني لشعبنا الفلسطيني باسره ، وسيظل مدرسة ، بل جامعة تتعلم منها الاجيال المتعاقبة الحب العظيم والتضحية والاخلاص بلا حدود لقضايا الوطن وللقضية الطبقية ولحقوق الشعب والطبقة العاملة الكادحة . وعزاؤنا بفقدان المؤسس والمعلم والمناضل والمفكر والناقد المثقف الالمعي الكبير اميل توما الذي عرف بابن خلدون ، بما خلفه من تراث نضالي وفكري وسياسي وأدبي يشكل نفيرًا مجندًا ومشعلًا وضاءً ينير طريق الكفاح ودرب الانتصار على الظلم والقهر والعبودية والاستغلال ومضطهدي الشعوب ومشعلي نار الحروب .

عرض مقالات: