هل أستطيع أن أكتب عن شخص دون أن أراه معتمدا على ما يقوله رفاقه وأقرانه وأصدقاؤه، ربما ولكن قد أنحاز في الكتابة أو قد لا أعطيه حقه وقد تكون المعلومات مبتسرة لا تعطي صورة كاملة عنه، لذلك سأحاول ما وسعني الجهد أن ألم بشيء من سيرته عسى أن يكون لرفاقه الأنصار معلوماتهم الكاملة التي تسهم في متابعة تاريخ الشهيد الكريم، وقد حاولت من خلال علاقتي بالرفاق العاملين في موقع ينابيع العراق الخاص بالأنصار الشيوعيين، إلا أني لم أظفر منهم بجديد ولكن جهود أخي وصديقي الأثير سلام الزيدي أثمرت بمعلومات وأن كانت قليلة إلا أنها أضافت شيئاً إلى ما عندي بانتظار موافاتي بما يتيسر له مستقبلا وعسى أن يكون للأخوة رفاق الفقيد معلوماتهم المفيدة في هذا المجال والتي ما أزال بانتظارها.

نشأ الرفيق في عائلة متواضعة الحال والمال، وهو من مواليد 1952/حلة /كريطعة واسمه الحقيقي ناظم مصطاف عبد الأمير، أكمل دراسته الإعدادية في ثانوية الفيحاء، وانتمى للحزب الشيوعي العراقي وهو في الرابع العام، كان شيوعيا ملتزما ومنضبطا وصاحب بأس شديد، وأكمل دراسته الجامعية في كلية الزراعة/جامعة الموصل قسم البستنة والغابات، وقد أخبرني أحد الرفاق طرفة حدثت مصادفة عند التحاقه بالجامعة فالمعروف أن الطلبة تلك الأيام كانوا يتخذون الأقسام الداخلية سكنا لهم، بما توفره لهم الدولة من سكن وراتب شهري يسد بعض النفقات فيضطر الطلاب لجلب احتياجاتهم من مؤن غذائية وملابس من أهاليهم، فكان الطالب يأتي لعائلته (السماء والطارق) ويعود منها محملا بالكثير من الأشياء وتشاء الصدف أن ترافقه في القطار مجموعة من الطالبات وبحكم التقاليد والعادات الشرقية يكون من واجب الرجل تقديم العون للمرأة وخصوصا إذا كانوا طلابا في جامعة واحدة وكانت الطالبات يحملن الكثير من الأطعمة والملابس فقام الشهيد بتقديم العون لهن ومساعدتهن في نقل ما يحملن من حاجيات، جرياً على طبيعته الريفية الملتزمة وتربيته الشيوعية الناضجة دون أن يعرف من هي الطالبة أو من أي مدينة أو كلية وعندما شاهده أحد زملائه الطلبة وهو رفيق معه في الحزب سأله مازحا (ها استلمت ترحيلهن) وكان الشهيد لا يعلم أنهن شيوعيات وبالصدفة ظهر أن أم أنور وأم انتصار عضوات في الحزب الشيوعي العراقي فكان للدم الشيوعي أن يختلج في النفوس الشيوعية المبرأة من أدران الحياة وأن يكون مصداقا للمثل الشعبي (الدم يحن).

وكان في الجامعة مثالا للطالب الشيوعي الملتزم فقد كان لالتزامه الحزبي أثره في تحديد توجهاته في الحفاظ على سمعة الحزب فهو مثال الطالب المجد في دروسه الذي ينشد التفوق والتقدم ليكون مثلا أعلى للآخرين، ولالتزامه ضريبته المعروفة في دماثة الخلق والأدب الرفيع والالتزام بضوابط المجتمع البعيدة عن تطلعات الشباب الجامعيين في الانصراف لما يتطلبه الشباب من متعة وانطلاق فقد فرض عليه هذا الالتزام العمل المضاعف لبناء التنظيم الحزبي والإسهام في النشاط الطلابي لما تتطلبه المرحلة من اثبات قوة الوجود في ظل أعتى سلطة وجدت على الأرض فكان يزاوج بين عمله الطلابي والحزبي بما لا يطغي جانبا على آخر، فنجح في المجالين وكان مثالا للشيوعي الحقيقي الذي يحسب عمره بمدى ما قدم لشعبه ووطنه من عمل هادف ومفيد وكان لما يسمى بالاتحاد العام لطلبة العراق وهو الواجهة البعثية الحول والقوة، وللسلطة مواقفها المعروفة في محاربة المد الشيوعي بين الطلبة ومحاولة تحجيمه لما له من تأثير في الساحة الطلابية لذلك تعرض لمضايقات كثيرة كان يتجاوزها بما عرف عنه من جرأة وصبر وجلد، ولم تنل منه تخرصات الأفاقين من أزلام البعث التي اتسمت بالدناءة والخسة والحقارة فكان كالطود الصامد بوجه الأعاصير وظل وفيا لمبادئه حتى النفس الأخير.

   وبعد تخرجه عين مهندسا زراعيا في مصلحة الفواكه والخضر في بابل، وما أدراك ما هذه المصلحة التي يهيمن عليها الأميون والجهلة ليسرقوا جهود الفلاحين وباعة الفواكه والخضر بطرقهم الملتوية، وأساليبهم الدنيئة، فوجدوا منه إحجاما وترفعا عن الانحدار لهذه المستويات الضحلة في التعامل مع الآخرين، مما جعله هدفا لمضايقاتهم، وتعرض إلى الملاحقة من قبل أزلام النظام البائد وتم اعتقاله في مديرية الأمن العامة لانتمائه إلى الحزب الشيوعي ووقوفه عائقا بوجههم في تمرير مخططاتهم الدنيئة في سرقة جهود البسطاء والشغيلة من أبناء شعبنا العراقي وأطلق سراحه بعد أن حل ضيفا لديهم لشهور عومل خلالها معاملة أقل ما يقال فيها أنها قاسية ومهينة، وبعد خروجه من السجن سافر إلى الخارج عن طريق تركيا متوجها إلى بلغاريا لإكمال دراسته وهربا من الجحيم الذي عاشه العراقيون بعد فشل الجبهة ولعدم حصوله على الفرصة المناسبة توجه إلى اليمن الجنوبي، وعين في اليمن مديرا لإحدى مزارع الدولة.

   ومن خلال عمله أدى واجبه على أحسن ما يكون الأداء على عادة الشيوعيين في الإخلاص في العمل والتفاني في الخدمة العامة ولحاجة الحزب إلى مقاتلين مدربين على فنون القتال المختلفة للعمل في فصائل الأنصار في كردستان الحبيبة، وتلبية لنداء الحزب في اشراك أعضائه في مقارعة الدكتاتورية البعثية الغاشمة، دخل دورة الضباط  في اليمن وتخرج فيها برتبة ملازم، والتحق بصفوف الحركة الأنصارية في كردستان العراق عام 1982، ليمارس ويشارك مع قوات الأنصار البطلة في العمليات الحربية التي أزعجت النظام، وأظهرت للعالم أجمع أن الشيوعيين العراقيين رواد الأدب والثقافة ورجال القلم، هم رجال المهمات الصعبة والقتال في الظروف التي تستوجب حمل السلاح، وأن نضالهم في أوقات السلم من خلال المظاهرات والإضرابات لا يعني أنهم يتجنبون خوض المعامع إذا جد الجد وحانة ساعة العمل الثوري، وأن طبيعتهم السلمية لا تعني أنهم غير قادرين على العمل المسلح، ولكن نظريتهم الإنسانية، جعلتهم يركنون للعمل السلمي بدلا من القتال، فلم يسجل عليهم التاريخ في يوم ما خرقا لهذه المبادئ والقيم التي كانوا عليها، رغم أن مواقفهم هذه أطمعت أعداءهم المتمرسين على الخيانة والغدر والقتل وإزهاق الأرواح البريئة.

   ولجده واجتهاده في العمل الأنصاري تدرج في المسؤوليات العسكرية حتى أصبح آمرا لأحد الأفواج، وتسلم أمرة الفوج التاسع لقاطع عمليات كركوك، وكان هادئ الطباع، شجاعا مقداما شهدت له بذلك سوح الوغى ومعارك الأنصار في كردستان، وشارك في عدة عمليات بطولية ضد القوى الصدامية التي حاولت وأد الثورة المسلحة في كردستان العراق، وما زال الكثيرون يتذكرون بإعجاب وقفته البطولية الرائعة بالتصدي لطيران الأوغاد الصداميين في منطقة قرة داغ عام 1987 عندما تصدى مع مجموعة من الأنصار للطائرات المغيرة وأمطروها بوابل من رصاصهم الذي جعلها تنثني راجعة بفعل المقاومة الباسلة، وقد جرح في تلك المعركة، وعندما ضربت منطقة عملهم انسحبوا إلى منطقة كرمينيان وهي ليست منطقة عملهم ويجهلون طبيعتها الجغرافية.

      وفي عام 1988 في معارك الأنفال تمت محاصرته مع رفاقه في قرية (تازة تار) برتل عسكري كبير ونشبت معركة من الساعة الرابعة صباحا حتى الساعة السابعة مساء تكبد فيها الجيش الصدامي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وأغارت عليهم طائرات بعثية مقاتلة لقصفهم مما أدى الي استشهاده مع رفاقه، ونقل جثمانه إلى معسكر للجيش في طوز خورماتو حيث دفنوا بمقبرة جماعية بواسطة شفل، وبعد سقوط النظام أخرجت جثامينهم وقام أهالي الدوز بتشييعهم تشييعا رسميا ودفنهم قرب جبل حمرين في مقبرة الشهداء.

المجد والخلود لشهداء الحزب الشيوعي العراقي، وشهداء الحركة الوطنية، والخزي والعار للصداميين المجرمين، الذين سودوا صحائف التاريخ بأعمالهم المخزية، والنصر المبين للساعين لبناء وطن حر وشعب سعيد.