في صيف عام 1988 وبعد معركة الدفاع عن النفس التي كادت ان تقضي على الجميع، جاء قرار الانسحاب، هذه المرة وحتى اولئك الذين يعشقون اطلاق الرصاص من بعيد! لم يجرأ احد ان يرفع سبابته احتجاجا بوجه التراجع، فالامر لا يتعلق بمصير معركة فقط، بل في الانكسار الكبير الذي تعرض له المزاج الثوري.

كان الشريط الحدودي الذي يمتد من قرية (ليلكان) وحتى قمة (خوا كورك) والذي تقدر مسافته بـ ( 6 او 7 ساعات سيرا على الاقدام)، عبارة عن سلسلة من التلال ذات الصخور العملاقة واشجار البلوط  الكثيفة وينابيع الماء الكثيرة والمغارات العميقة، لكنّ  هذه التضاريس الوعرة لم تقف حائلا امام الجيش وهو يلاحقنا من مكان الى اخر حتى وجدنا انفسنا رهائن في معركة حامية الوطيس!.

للاسف الشديد، لا توجد في ذلك الزمن هواتف ذكية تنقل تفاصيل تلك الحياة القاسية، ففكرة محطة الكفاح المؤقتة تحولت الى مصير مجهول و((انّ الانسان عدو ما يجهل))!، فأيامنا خلت الاّ من بعض كلام ((التلاوة)) التي لا تتعدى معانيها سوى محاولة لتزيين المشهد، ومع ذلك فأننا قطعنا شوطا طويلا في مقاتلة الملل والخوف والجوع والحرمان من ابسط ضروريات الحياة الطبيعية، لكنّ المعركة الاخيرة قلبت الموازين واثبتت انّ الانسان عبارة عن آلة من الاحاسيس تعيد انتاج نفسها الى الابد.

في بداية الاجتياح وبعد ان سيطرت القوات البرية على سلسلة (دراو)، ثم نزلت الى الوادي لتصعد الى اعلاه حتى الحدود الايرانية في لولان، كنّا على اهبة الاستعداد لمواجهة الاعداء والدفاع عن مقراتنا التي كنّا نعتقد بانها محمية بما يكفي من التحصينات، لكنّ ذلك وفي اللحظة الحاسمة ظهر مجرد مبالغة في تقدير قوتنا.

في اواخر العام 1985 تركنا (سبيكَا)، ذلك المقر الذي اشتريناه بـ 50 دينارا من صاحبه القروي، كان يقع على سفح تلة مرتفعة، وكان يمكن ان يؤدي الانصار فيه دورا مهما في الاستطلاع وجمع المعلومات عن تحركات الجيش والجحوش، لكننا استغنينا عنه بسبب التقدير العسكري الخاطئ وبسبب الجوع الذي كنّا نعاني منه آنذاك، فأقمنا في اسفل الوادي من جهته الاخرى في ((ارموش العليا وارموش السفلى)) القريبة من الوادي الاسود، وعلى مسافة اقل من ساعة، كان مقر فصيل ((دجلة)) ويقابله فصيل ((الاعلام واذاعة الانصار))، اما مقر المكتب العسكري فأنتقل الى ((بير بنان)) الذي يبعد  4 ساعات تقريبا عن هذا المكان.

بعد مضي بضعة اشهر، تحسنت ظروفنا المعيشية، وخاصة عندما اندمج فصيل ارموش مع دجلة بالقرب من فصيل الاعلام، فخُصص لنا وجبة لحم كل شهر مرة، بالاضافة الى وفرة في العدس والحمص والفاصوليا والجوز الذي نقوم بجمعه من اشجاره الكثيرة المنتشرة في المنطقة، كما انّ حالة الاستقرار هذه، حفّزت الانصار على الاستفادة من الارض المنحدرة انحدارا بسيطا والغنية بالمياه في زراعة الخضروات المختلفة وتربية الدجاج والتي ساهمت بشكل اساسي في معالجة سؤء التغذية الذي اجتاح اجسادنا، وحملت تلك المزرعة اسم ((مزرعة سعيد عرب)) وهو النصير الذي تولى مسؤولية الادارة ونجح نجاحا باهرا فيها، وهناك عامل اخر ساهم في ترسيخ مشاعر الاسترخاء والاطمأنان وهو التغيير الذي حصل في الحياة الحزبية الداخلية بعد المؤتمر الرابع، فلأول مرة يشهر الحزب سلاحه بوجه البيروقراطية وينزع الصفة الحزبية، ولأول مرة جرت انتخابات لآمر فصيل ((دجلة)) تنافس فيها اثنان من الانصار.

يتبع

عرض مقالات: