منذ سنوات تحدثت مع الفقيد العزيز جاسم ولائي (ابو نورا) عن مشروعي في كتابة مذكراتي الانصارية ، وقد ابدى اهتماما كبيرا في هذا المشروع في تصليح لغة الكتابة وقواعدها وكذلك ابداء المشورة و كتابة مقدمة الكتاب، واخذ هذا المشروع اياما بل شهورا في انجازه ، ورد لجميله هذا اقدم مقدمة كتابي مذكرات نصير (مسيرة الجمال والنضال) التي غطى ما يحويه الكتاب. حيث مر بالتفاصيل الكثيرة والاكثر كان متابعا وصبورا اضافة الى خلقه العالي وتواضعه ، وهو الشاعر والمذيع والكاتب والمترجم. نحن اصدقاءه خسرناه بغتة ،لم نتوقعها، له المجد.

مقدمة

لعل أروع مامٌر به الحزب الشيوعي العراقي خلال الاربعين عاما الماضية هي تجربة الكفاح المسلح التي خاضها خلال عقد الثمانينات ضد الفاشية التي كانت تحكم العراق، ولعل هذه التجربة هي أكثر مايفخر به العراقيون منذ مسيرة عام 1979 الشاقة التي انتقل فيها الحزب برفاقه وقيادته وجزء كبير من مناصريه واصدقائه الى الخارج. كان حلم النظام الفاشي يتكرس في لاعودة للحزب مرة أخرى الى بلاده وشعبه وأنه قد صفى الحزب تماماً،وكان مسؤولوه الكبار الذين في نفس الوقت خدم صغارلأسرة صدام وقبيلته الريفية الصغيرة غالبا مايصرخون ويعلنون بخفة وغطرسة انهم استأصلوا شأفة الشيوعيين من العراق، في الوقت الذي كان انصار الحزب ونصيراته يجوبون ميدان الكفاح الانصاري المسلح مع أخوتهم البيشمركه الكرد يقومون بعمليات بطولية تصل في احيان كثيرة الى مخادع اتباع لنظام وعملائه وخدمه.كان الاروع في هذه التجربة أنها كانت تحديا لنظام متغطرس أوصله وهمه وجهله بأنه سيخرق السماء ويبلغ الارض طولاً بأسلحته الهائلة وجيوشه الجرارة واجهزته الحديدية الخاصة وامكانياته المالية غير المحدودة،لكن فتياناً وفتيات من الحزب الشيوعي العراقي جاءوا من مختلف أنحاء العراق من البصرة حتى زاخو،ومن عواصم الدنيا تاركين أسرهم وأعمالهم ومقاعدهم الدراسية في الجامعات والمعاهد ليحملوا السلاح ويرتدوا الثوب الكردي باديئن بالعصا كسلاح اول حتى وصلوا الى قاذفة الستريلا التي كانت سلاحا متطوراً حينها ضاربين مراكز السلطة التي كانت تقتل بالجملة وتخرب في كل مكان لمجرد الشبهة ولمجرد رفع صورة جنرال جاهل مزيف ببزة عسكرية لا تليق جسده المترهل.

كنا نسمع أخبار رفاقنا  الانصار وهم يجوبون القرى، تحضنهم البيوت الكردية ويستقبلهم الاطفال الكرد وتقدم لهم ربات البيوت شيئاً من الطعام الاسرة يشاركونها فيه خبزاً وملحا ووجداناً، كانوا عرباً من البصرة والموصل والعمارة وبغداد وباقي المدن الاخرى وكردا وتركمانا وكلداناً واشوريين ويزيدين ومندائيين في لحمة شيوعية واحدة يجمعهم السلاح الوفي المدافع عن قضية شعب كريم ويسعى  لخلاصة من طغمة فاشية مصابة بلوثة النزوع الى التخريب و مريضة بوهم العظمة تسعى لتدمير كل شيئ العراق.

كنا كاعلاميين موزعين في بعض عواصم العرب، وفي مقدمتها دمشق التي كانت حضن المعارضة، نسمع اخبار أنصارنا، نقرأ عنهم، تصلنا بوادر أيداعهم الفني صورة وقصة وقصيدة وفصلا مسرحياً وتصلنا معها اخبار عملياتهم العسكرية وأقتحاماتهم لأوكار الفاشية نحاول أن نمرر خبراً او كلمة أنصار عن رقابة خبيرة شديدة، لكي يرى ويقرأ الاخرون ماذا يفعل اولئك الشباب في مواجهة ذلك الصرح الاجرامي الجبار، صرح الفاشية الباغية في العراق، ونفهمهم لماذا يفعلون ذلك وكيف وسط تيار اعلامي متحفظ يفكر بالمستقبل قبل ان يفكر بالحدث او بالحقيقة ويوازن بين غنى النظام وفقر المعارضة العراقية، بين اليد الممدودة دائماً لتقديم ثروة العراق المسروقة لكل من يمتدح ويتغزل ويتغنى، حتى لو كان ذلك المدح والتغزل والغناء محرماً وضد الطبيعة والجمال ويلمح بأكثر من شذوذ.

مؤلف كتاب الانصار(مسيرة والجمال النضال) ليس بالصائغ المتمرس او التشكيلي المحترف الذي يحول المادة الخام الى قطعة فنية نادرة تسرق الالتفات، بل هو المناضل المحترف والعامل الذي تشققت يداه من أجل اعالة أسرته ومواصلة حياته ، ، ولم تكن أظفاره ناعمة ، بل هو مقاتل ونصير شيوعي رغم أنه سرق بعض الوقت من حياته الاولى ليتخرج من كلية الاداب جامعة بغداد .

حاول وسأل وطرق الابواب ، جمع القصص والاخبار والاسماء والصور وأضافها الى مالديه من تجربته في الميدان الانصاري ليقدم كتاباً فاجأنا به

لم يكن كتابا عسكريا يتنقل من موضع الى أخر ومن حصن الى ربيئة فقط، وأنما كان حياة متكاملة تسجل علاقات أنسانية بين بشر عراقيين يحملون فكراً أنسانياً وحضارياً وحلماً كبيراً في خلاص الوطن وحباً اكبر لشعبهم.

شرفني هذا الطالب العامل النصير والكاتب أخيراً أن القي نظرة على مشروعه وابدي بعض الرأي في لغته وكتابة مقدمة له، وهو أمرادهشني كثيراً بالنسبة لي انا الذي كنت اعمل في مؤسسات اعلامية كبرى اناقش مع المتناقشين وأتحذلق مع المتحذلقين في وقت كان هذا الصديق يكتب وحيداً دون أستعراض وتحت نور الفانوس خافت داخل مشجب السلاح بعض التفاصيل اليومية عن حياته وحياة رفاقه الانصار، ومياه أمطار كردستان الغزيرة تخترق السقف فوق رأسه وتبلل اوراقه ليضطر مع رفاقه الى الخروج ليلاً وتحت سطوة الليل الزمهرير لأصلاح السقف، ليس خشية على نفسه بل على سلاح الحزب والرفاق من التلف والصدأ.وفي الوقت الذي كنت انتظر سيارة المؤسسة لنقلي من والى موقع عملي كان يجتاز السفوح والانهار الهادرة وحقول الالغام لسلاح ومؤن ثقيلة بواسطة نقل وحيدة هناك أنذاك هي البغل الذي ينقل على ظهرة حمولة نفيسة هي السلاح والمواد الغذائية والنفط والحطب وبعض الكماليات كالورق وامواس الحلاقة وربما بعض الحليب الجاف او القهوة، كانت قطعة الحطب وحبة القمح وحفنة السكر وقطعة السلاح أغلى من  الذهب بالنسبة له فيا للمفارقة الظالمة. الان هو يكتب عن التجربة ويطلب مني الرأي والمشورة.

الكتاب أقول: هو كتاب حياة، وتفاصيل حياة يومية قاسية في أغلبها لكنها سعيدة. كتاب تجربة نادرة علم الكاتب اجزاءها من كم هائل ضاع أغلبه بسبب ظروف التجربة قسم منه ضاع مع الشهداء،والقسم الاخر فقد أغلبه في الظروف الصعبة  التي  مر بها الانصار، احترق في القصف او سقط في الانهر والوديان  او فقد في المسير الشاق. لكن مالا ينسى سجل وبقي حياً مؤصل الى القاريء.

الكتاب هو الخطوة الاولى التي ستاتي أثرها  خطوات لتوثيق وتدوين  حياة الانصار وتجربتهم الطويلة والغنية في كفاحهم ضد النظام الفاشي في فترة قاربت العقد من الزمان.

            جاسم الولائي

   أذ ار / مارس 2004

عرض مقالات: