في رواية (سفر التكوين) للكاتب (ادواردو غاليانو) نقرأ مثلاً يفتتحها به قائلا: العشبَ الجاف يحرقُ العشب الرطب! ما يجعلنا نتساءل: إذا كانت الأعشاب تفعل هذا بنفسها فكيف البشر؟!
العشب الجاف خالٍ من كل ما يشير إلى وجود الحياة، أما الرطب فمكتنز بشتى تفاصيلها المثمرة! وهذا ينطبق على الجنس البشري، فالمعبّأ بالحقد والكراهية والأنانية والحسد والفساد، يختلف كليا عن الممتلئ بالطيبة والمحبة والتسامح ونكران الذات والنزاهة والإخلاص والحب!
ونتساءل: مَنْ المملوء حياةً وبناءً وازدهاراً واخضراراً وسعادة وفرحا ؟! ومَنْ ينزّ موتاً واصفراراً وبؤسا وخرابا ؟!
الحياة الحقيقية يعيشها الممتلئون بها، وبكل ما يبعث فيها التجدد والنمو، وهم المتسامحون، المحبّون، العاملون بالعدل والخير والنزاهة ونكران الذات!
وهذا عشناه و ما نزال نعيشه منذ ما يقارب النصف قرن ، حيث ساد البلاد أناسٌ لا يمتلكون شيئا من هذه المشاعر أبدا ، أشاعوا الكراهية والحقد والأنانية والحسد والغَيرة والرعب والفساد ، حكوماتٌ مهووسة بالدم وأخرى بالفساد ، نظام فاشيٌّ حكم البلاد بالنار والحديد، فانتشرت رائحة البارود والخوف والموت ، وصرنا نبحث عن كوّة نستنشق عبرها استقرارا وفرحا. عسكرَ البلادَ والعباد والتراب والشجر فاصطبغت أيامنا بلون الحروب ، وبقينا تحت مطرقته نتلهف لشروق شمس حانية ذات يوم . وجاءت لحظة الشروق بسقوطه المريع ، فتنفسنا الصعداء ورقصت قلوبنا فرحاً بزواله ، لكن حريتنا وفرحتنا لم يدوما طويلاً ، حيث سُرِقت الفرحة منّا ، وصرنا نتلمس دروبنا بين دهاليز مرعبة. إذ تسيد في البلاد أناسٌ كالعشب الجاف ، أشاعوا الكراهية وأسّسوا لها ، وفتحوا أبواب الطائفية مشرعة ، وظلّوا يصبّون الزيت فوق النار لحاجات في نفوسهم المريضة ،وكأنهم قد تشرّبوا بمبدأ ( فرّق تَسُد ) الذي قرأنا عنه ، وعرفنا أن الاستعمار كان يشيع ثقافته بين الشعوب للسيطرة عليها واستغلالها ثم نهب ثرواتها وخيرات أوطانها. وهذا ما حصل بعد ما دبّت الطائفية والمحاصصة المقيتة التي شرعنت الفساد بكل أشكاله ، فعمّ الخراب ، وماتت الضمائر وتعفّنت النفوس وضاعت البلاد ، وصرنا نخوض في وحل الخراب والتدهور ومن سيّءٍ إلى أسوأ!
لهذا يتوجب علينا أن نتوقف قليلا ونتأمل أنفسنا: هل بنينا أو سنبني وطناً ؟!
وإذا أردنا حقا أن نبني وطناً، فعلينا أن نشيع ثقافة التسامح والمحبة ونقضي بالعدل بين الناس لنشعرهم أنهم أخوة يعيشون في وطن واحد وتحت سماء واحدة، ويشربون من نهرين عظيمين!
الأدلّة على بناء الأوطان كثيرة، وما علينا إلاّ أن نملأ قلوبنا وقلوب الناس تسامحا ومحبة وإيماناً بالوطن بشكل حقيقي، لا شعارات وكلاما فارغا!