من حسن حظي اني تتلمذت على يد المعلم الكبير د.جميل نصيف، خلال دراستي مطلع السبعينيات في قسم المسرح باكاديمية الفنون الجميلة. حيث كان نصيف يدرسنا مادة "تاريخ الادب المسرحي" وهي مادة في صميم تخصصه بالدكتوراه التي نالها من الاتحاد السوفيتي السابق. كان يحظى، كاستاذ، باحترام كبير من قبل الطلبة والاسرة التدريسية على حد سواء. كان يمتلك " كارزما" متميزة تثير في نفس المقابل الاحترام المشوب بخشية خفية من شخصه.

كان صاحب ذائقة نقدية متميزة في مجال المسرح، فبينما اتفق اغلب المسرحيين على ان مسرحية " النخلة والجيران" التي اخرجها الراحل قاسم محمد، اواخر الستينيات، لفرقة المسرح الفني الحديث، حدث مسرحي رائد وفاصل في تاريخ المسرح العراقي، اعتبرها د. جميل نصيف مجموعة مشاهد ركبت مع بعضها ولم ترتق الى مفهوم " المسرحية " بعناصرها المعروفة!

مرة وجدته يدخن (حينها كنت في السنة الأولى) فحاولت ان " اتحرش" به قائلا : استاذ اليس التدخين مضرا بالصحة؟ فاجابني بانه لا يدخن الا سيكارة واحدة في اوقات متباعدة جدا، مؤكدا ان جسم الانسان يحتاج احيانا الى كمية قليلة من " النيكوتين"..فاجبته: ولكن حكم الجزء كحكم الكل ( واقصد لا فرق بين سيكارة واحدة او علبة كاملة!) فقال لي وبلهجة لا تخلو من صرامة : انت يا بني اما انك ذكي، او تدعي الذكاء! وهكذا اشعرني بحجمي الحقيقي امام رجل  علمي اكاديمي، وكان يجابه سلطة البعث الغاشمة، انذاك، بنقد لاذع بالرغم من علاقة القرابة العائلية التي تربطه بهرم السلطة!

كان د. جميل نصيف معروفا بصراحته وباطلاق آراء لا مجاملة فيها. في ربيع احدى سنوات الدراسة كانت صفوف الكلية مزينة باوراق ملونة للاحتفال بتاسيس حزب البعث الحاكم! طَرَقَ احد منتسبي منظمة السلطة الطلابية " الاتحاد الوطني" باب الصف وكان الاستاذ نصيف مسترسلا بالقاء محاضرته علينا. اوقف المحاضرة. استاذن الطالب بقراءة اعلان يخص الطلبة، فما كان من الاستاذ الا ان يعنف الطالب ومنظمته الطلابية على انعدام الذوق بتزيين الصفوف بهذه الطريقة التي تخلو من الذوق الفني والجمالي. من جانبنا، نحن المعارضين للسلطة، كان فرحنا لا يوصف بما صرح به الاستاذ ضد ممثل السلطة الطلابية!

الاساتذة الجادون من تدريس موادهم في كلية الفنون الجميلة كانوا قلة ومن بينهم د.جميل نصيف، وكانت مادته من اصعب المواد، لانها تعتمد التفكير والتحليل والاستنتاج وليس الحفظ الآلي عن ظهر قلب!

اما الاسئلة التي كان يطرحها ايام الامتحانات فلم تكن تقليدية، اذ انها تعتمد في حقيقة الامر على فهم جوهر مادة الادب المسرحي. وكان يسمح لنا، اثناء الامتحان، بفتح الكتب والمصادر الدراسية التي في متناول اليد، لسبب بسيط هو عدم وجود الحلول في الكتب بل في "الراس" الذي قرأ هذه الكتب. وعلى سبيل المثال كان يطرح اسئلة مازالت تحمل حيويتها وتبحث عن اجوبتها: "تتبع الخط الدرامي في مسرحية اوديب ملكا لسوفكليس" . وسؤال آخر : لماذا الجوقة في المسرحية الفلانية من النساء؟! او: ما ضرورة " الشبح " في مسرحية هاملت لشكسبير؟!

هكذا كان يطرح الاسئلة التي تقودك الى قراءة عشرات المصادر، او ربما المئات، كي تتسلح بثقافة مرموقة تسهل عليك اعداد اجابات مناسبة للاسئلة المطروحة.

كان د. جميل نصيف يتحلى بفهم ماركسي للحياة وللتاريخ وبحس جمالي وثقافة تنويرية مرموقة، سهلت عليه ايصال رسالته التعليمية لابنائه الطلبة الذين احبهم واحبوه باحترام كبير لشخصه ولمواقفه النبيلة.

 

عرض مقالات: