في الدولة العميقة، كما هو الحال في العراق المبتلى بكل ما هو سيئ في عالم السياسة، لا يكتفي قادتها وعرّابها القابع وراء الحدود، بالهيمنة السياسية والاقتصادية الاجتماعية على مفاصل الدولة والمجتمع، وانما يعملون على تحصين هذه الهيمنة بتشكيل أذرع عسكرية، يتم انتقاء عناصرها عادة من اناس سماتهم الرئيسة البلطجة والارتزاق والوعي الاجتماعي المشوه، لضمان التصاقهم بهم، وتفانيهم في خدمة مخططاتهم المعادية جملة وتفصيلاً لمصالح الشعب العراقي.
وهذه الاذرع العسكرية، ماهي إلا مليشيات وقحة ومنفلتة، لا تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم، إرضاء لأسيادها، وتجسيداً لحالة التخادم القائمة بينهما، وكانت طيلة السنوات الماضية، هي القوة الضاربة لهذا الحلف غير المقدس، ونفذت تبعاً لذلك كمّاً هائلاً من الجرائم والاعتداءات، تراوحت بين الخطف والضرب والاغتيال والابتزاز ومصادرة بيوت واملاك الآخرين بالتهديد أو التزوير، وكانت ضحاياها طائفة واسعة من المواطنين العراقيين، الذين لا ذنب لهم سوى عدم الولاء لهم، او يمتلكون ما يجعل لعاب هؤلاء القتلة يسيل بغزارة.
وفي الانتفاضة البطولية، التي اندلعت في الاول من اكتوبر، وأعادت الى العراقيين كرامتهم، ووحدتهم الوطنية، ارتكبت هذه المليشيات جرائم يندى لها الجبين، وتَصِمُ بالخزي والعار مقترفيها، بعد ان جاءتهم الاوامر بالتصدي للمنتفضين البواسل، وهم يعلمون جيداً، أن المتظاهرين ما خرجوا الى ساحات الشرف، إلا للمطالبة بحقوقهم المسلوبة، واحتجاجا على الدمار والخراب الشاملين، الذين زرعتهما ورعتهما الاحزاب السياسية والكتل المتنفذة، على حساب جوع وإملاق الغالبية العظمى من الشعب العراقي.
اعتلوا في بادئ الامر سطوح البنايات العالية، ليمارسوا هوايتهم المفضلة، في حصد رؤوس وأجساد الشباب العراقيين، فاستشهد المئات، وجُرح وعُوِّق الآلاف في مجزرة قل نظيرها في العالم المعاصر، إضافة الى استهداف بعض الاجهزة الامنية والعسكرية للمتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، والقنابل المسيلة للدموع والمحرمة دولياً، وتصويبها الى الرأس لتصيب منهم مقتلاً.
وبعد أن جربت الحكومة وأجهزتها القمعية القسوة المفرطة والعنف اللامحدود، واعتقال الآلاف من المنتفضين، ومعها حزمة من الوعود الكاذبة، والاصلاحات الترقيعية، دون أن تحقق نجاحاً ولو كان ضئيلاً، بادرت الميليشيات مجدداً، الى اختطاف الناشطين وتغييبهم، ثم توجت نشاطها الاجرامي بمجزرة السنك، وبتواطؤ مكشوف مع قيادات القوات الامنية والعسكرية التي كانت تحيط بالمعتصمين والمتظاهرين، ويفترض بها حمايتهم، لكنها انسحبت قبل بدء الهجوم الغادر وأطفئت الكهرباء كلياً عن منطقتي السنك والخلاني، ليخلو الجو لهؤلاء الاوباش وينفذوا جريمتهم الوحشية، التي راح ضحيتها أربعة وعشرون شهيداً، وأكثر من سبعين جريحاً، أضيفوا الى قائمة الشهداء الابطال الذين افتدوا العراق بأرواحهم، ومن أجل كنس الطبقة السياسية الفاسدة.
ومن سخريات القدر، ان تدعي الحكومة في بياناتها، أن عصابات مجهولة الهوية قامت باختراق الحاجز الامني، وإطلاق النار على المتظاهرين، الامر الذي يدل على ضعفها والاستخفاف بها حد الاذلال والمهانة، من قبل الميليشيات ذاتها.
إن الانتفاضة الباسلة بأبطالها، وبالجماهير الغفيرة التي تدعمها وتساندها والاصرار الثوري على ديمومتها، والثبات في سوحها، سيؤدي لا محالة الى تحقيق أهدافها كاملة، وإلقاء أعدائها وسارقي خيرات بلدها في القاع من مزبلة التاريخ.