استيقظ على صوت المطر المنهمر منذ الصباح الباكر، ورَنَّمَ وهو يسمع صوت القطرات النازلة من السماء، اذ بدت له كأنها صوت بيانو بيد عازف مرهف الحس، فيما نسمات البرد دغدغت وجهه الأسمر. حينها هَم بالنهوض لمشاهدة منظر الساحة، اخذ البطانية ليتلحف بها، اذ كان البرد يزحف الى جسده شيئا فشيئا، مع الشتاء الذي بدا يطرق أبواب المدينة مع بداية شهر كانون الاول، اطال بنظره بعيدا أمام مكان نومه الواقع في اعلى البناية التي تقع قرب جسر الجمهورية.
المطر وصوت تساقطه المتناغم، جعله يتأمل طويلا ويشرد بذهنه الى ذكرياته مع بداية نزول اول الغيث كل سنة، حين يستقبله عبر نافذة غرفته، فيرنو بصره الى منظر الشارع المبلل واشجار النارنج المتهدل على اسيجة بيوت الجيران، فيما تجذبه رائحة الشاي المهيل والمدفأة النفطية وصوت امه الملائكي الداعي لشرب الشاي معها في الاستكان المذهب" كوب الشاي العراقي" بحسب قولها بس الاعزاز يشربون بي، ولكي يشعر بالدفء أيام البرد.
كان يتوق الى السير تحت المطر وصولا لدار صاحبه، لكي يرافقه هو الاخر ليتمتع بأول مطرة، ويناديه قائلا " علاوي اليوم اني اتحداك تبلل بالمطر، وبعدين اعزمك على غدة من ايد الحجية" كان صاحبه يرد عليه " شبعت بلل بالمطر، فالسقف يخر على رؤوسنا من اول قطرة، كفيلك الله لم يبقى وعاء بالبيت لم نضعه تحت نزيز السقف المتهرئ لجمع الامطار المتسربة، حتى الخاشوكة خليناها "
بدا الحزن واضحا على وجهه، فقد نعى صديقه الوفي الفقير قبل شهر من اليوم، بعد ان اخترقت جمجمته قنبلة دخانية أطلقتها قوات الشغب على المتظاهرين. فالقمع والعنف والقتل ضدهم غزير بغزارة المطر اليوم. وحدث نفسه:" لعل السماء اليوم استجابت لدموع الأمهات المفجوعات بأبنائهن، اليوم تبكي وتواسيهن بمصابهن، وربما استجدت السماء دموعا أخرى لكي تزيل وتغسل آثار الدمار والقنابل الدخانية، كي تبقى ارضنا بوجهها الناصع وثراها الطيب المعمد بدماء الشباب".
تدارك نفسه ورمى البطانية من على كتفه، واستبدلها بـ "قمصلة مطرية" واستنهض باقي الشباب في مهمة عاجلة، حيث قصدوا خيم المسعفين والعائلات المنتفضة، وبادروا لتغطيتها بالنايلون لمنع تسرب المطر اليها، ووضع ستندات خشبية على الأرض. بعدها اشتد هطول المطر فاخذ هو يهتف " علاوي من مات جان ينادي تبقى عزيزة وحرة بلادي".
اليوم المطر ينشد انشودة ثورية كي تلهب حماس المرابطين في سوح الاحتجاج، يلهم ويحفز الهمم ويرثي الشهداء الذين سقطوا في محراب الحرية لأجل وطن جديد.

عرض مقالات: