تسع وثلاثون محاولة انقلابية قام بها البعث وحلفاؤه من الاقطاعيين والقوميين، وكل المعادين لثورة 14 تموز المجيدة، بدفع واسناد كبيرين من شركات النفط الاحتكارية ودول امبريالية، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانياً واخرى اقليمية للإطاحة بالنظام الوطني، الذي كان يرأسه الزعيم عبد الكريم قاسم، لم تنجح الا الاخيرة منها، بفضل تهاون قيادة الثورة ازاء المتآمرين، وسياسة عفا الله عما سلف، التي لم تشمل سوى الذين في قلوبهم مرض، والمدمنين على التآمر، وتخريب كل ما هو جميل في الحياة.
اما المخلصون والمدافعون عن الثورة وقيمها، وانجازاتها الكبيرة، فكان نصيبهم السجن والملاحقة، ووضعهم تحت رحمة العصابات المشتركة للبعث والاجهزة الامنية، والابعاد عن المواقع الحساسة، او الاحالة إلى التقاعد في أحسن الاحوال، الامر الذي وفّر البيئة المثالية للانقلاب المشؤوم في 8 شباط 1963.
في هذا اليوم الأشد سواداً طيلة تاريخ العراق القديم والحديث، غمر طوفان الحقد والبغضاء والانتقام جهات الوطن الاربعة، دون ان يستثني احداً، شيبا وشباناً، رجالاً ونساء، وحتى الاطفال لم يسلموا من بحر الدم، الذي أبحر فيه تلامذة عفلق بوحشية قل نظيرها على مر العصور.
انها واحدة من مفارقات التاريخ القليلة، التي احتار كيف يصفها؟ وبأي العبارات يدونها؟ وهل ان ما جرى ينتمي لبني البشر ولو بخيط واهٍ ورفيع؟ ام ان فرسان هذه المجزرة نضبت صحراؤهم، فجاؤوا ليرتووا من دماء الابرياء؟ لم يكن جنون البقر معروفاً آنذاك، ليكون دالة على ما ارتكبوه من آثام بحق أفضل بنات وابناء الشعب العراقي، شيوعيين وديمقراطيين ومستقلين، كانوا يلعقون جراحهم بصمت، ليظل الوطن حياً، ولتبقى جذوة الثورة متقدة، لا يخبوا اوارها رغم الرياح السوداء التي كانت تعصف بها.
المفكر الأديب حنا بطاطو يفسر ما جرى ويرجعه الى ان البعث كان منبوذاً في الشارع العراقي، ومنبع حقده على الشيوعيين، ان الشارع كان لهم، ويحظون بجماهيرية واسعة، مستشهداً بالشعار الذي تصدر جريدتهم "الاشتراكي" قبل بضعة أشهر من الانقلاب الناشئ وهو (اليد التي تمتد الى الشيوعيين سوف تقطع) رداً على الجهود النبيلة التي كان يبذلها الحزب الشيوعي لتوحيد القوى الوطنية والديمقراطية وتجسيدا للإصرار على ادخال العراق وشعبه في سلسلة من الكوارث التي ما انتهت الى هذا اليوم. لكن صدام حسين كان أكثر وضوحا في تفسير ما حدث في شباط وفي فترة السبعينات ايضاً، حينما خاطب عدداً من رفاقنا القياديين بأنكم لا تعرفون ما هو البعث حتى الآن، وقال بزهو الشقاة (نحن عصابة قبل استلامنا السلطة، وعندما نصل الى السلطة نعمل من اجل ان نصبح حزباً!).
بهذه الروحية والايديولوجيا المتعفنة غزا الجراد الاصفر العراق، واورثه السقم السياسي والاقتصادي- الاجتماعي، الذي نعيش فصوله المتأخرة الآن، بفضل الاحتلال الامريكي لبلدنا، وما تلاه من فوضى خلاقة اتت على الاخضر واليابس.
في هذه المناسبة الحزينة، لا بد من التذكير بدروسها وعيوبها، واهمها ان العداء للشعب او الابتعاد عن تطلعاته وطموحاته المشروعة سوف لن يورث اصحابه غير النقمة وعدم الثقة والمقت الشديد، وبالتالي القذف بهم الى حيث لا يشرف احداً ان يكون هناك.
كل ثلاثاء.. حيرة التاريخ في شباط الاسود
- التفاصيل
- مرتضى عبد الحميد
- آعمدة طریق الشعب
- 1398