بعد مرور خمسة عشر عاماً من الانفلات الأمني و من التراجع المريع في الخدمات، و الصحة و التعليم و فرص العمل . . في ظل حكم تفاقم النهب و الفساد وسوء الادارة على اساس المحاصصة الطائفية، التي هدرت مايقارب الترليون دولار من واردات العراق (وفق بيانات الهيئات الدولية المعتمدة) ، دون دلائل تُذكر لبناء او حفاظ على معالم دولة عصرية كان عليها العراق، حتى صارت اوسع الاوساط و خاصة الكادحة و الفقيرة تئنّ من التردي و بؤس المعيشة والتخلف . .
في وقت تشاد فيه اكبر و اجمل الفيللات و العمارات و المصالح، لمتنفذين في الحكم كانوا قبله من المتسكعين . . الأمر الذي جعل الحياة بائسة بلا أمل و خاصة لأجيال الشباب الذين درسوا و اجتهدوا و تخرّجوا، ليُرموا الى الشوارع و لتتلقّفهم انواع الآفات، من المخدرات (الوافدة اساساً من ايران على ايدي متنفذين) الى السرقات و الى الميليشيات و السلاح و الثارات و غيرها . .
في وقت تتجاوز فيه احتياطيات العراق النفطية ابرز احتياطيات عدد هام من الدول النفطية، وفي وقت يبلغ فيه انتاج النفط العراقي، المرتبة الثانية بعد السعودية في سلم انتاج دول منظمة اوبك من جهة، و الشباب يرون بأم العين مجمعات الشركات النفطية بابراجها و نيرانها، و يرون عمّالها الاجانب الذين يشكّلون الغالب الاعم من عمالها، في وقت يئنوّن هم فيه من البطالة و الفقر من جهة اخرى . .
الأمر الذي تسبب بانفجار غضب شباب البلاد نساء و رجالاً و من كلّ مكونات الطيف العراقي، منذ عام 2011 ، حيث لم تخلُ مدينة او شهر دون احتجاجات متنوعة الطابع، متحدية استخدام العصي و الرصاص الحي و الغازات المسيلة للدموع و رشاشات الماء الحار و سقوط اعداد متزايدة من الشهداء و الجرحى، و مطاردة الناشطين فيها و ضياع اخبار اعداد كبيرة منهم . . بسبب انواع الاوامر الحكومية الصادرة بشتى الذرائع ـ من عدم التزام الهدوء، عدم ضبط المواعيد، و الى ضرورة الهدوء في مواجهة الرصاص الحي و الغازات السامة ؟!! ـ للتضييق عليها او لخنقها، حتى وصل الامر الى انتفاض عامة الشعب في مدن البلاد من اقصاها الى اقصاها و الى اقتحام مراكز الأحزاب الحاكمة و المقار الحكومية و حتى البرلمان، التي لم تعد تعني بعيون الفئات المعدمة الاّ قلاع للاضطهاد . .
فيما استمرت مجابهة الاحتجاجات الشعبية بقساوة فائقة و اضافت لها الاجهزة الحاكمة اتهامات باطلة و سخيفة لمن لايرى ولايعرف اسبابها، بكونها مدفوعة من جهات خارجية مندسة، غير مدركة او غير مبالية بان السبب يكمن في فشل الطبقة السياسية الحاكمة و كذبها الشنيع و فسادها و هي العائشة في أبراجها العاجية بعيداً عن معاناة الناس وهمومها . .
و فيما لم تجد الاحتجاجات نفعاً رغم انواع الوعود و القرارات و اللجان الفارغة، فإن الحياة ازدادت تدهوراً حتى بلغت مراحل لا تطاق بانقطاع الماء الصالح للاستهلاك البشري و انقطاع الكهرباء، بل و انقطاع الانهار التأريخية للبلاد بفعل المصالح الضيّقة للجارات تركيا و ايران دون رادع او جهد حكومي حقيقي و سريع للوقوف بوجهها . . الامر الذي تسبب بجفاف مساحات زراعية شاسعة، و تسبب بشيوع الخوف من موت بطئ حتى للمقيم في منزله دون احتجاج، بسبب زيادة تراكم القاذورات و تحويل انابيب الصرف الصحي الى الانهار الذي فاقم التلوث و فاقم تفشي الامراض في ظل رعاية صحية بائسة و مسؤولين لايصدقون مايجري او يسخرون منه !!
لقد تظاهر شباب البصرة الشجعان هذه المرّة بكثافة وهم ملتزمون بالتعليمات الحكومية ابتداءً، و طالبوا بالكهرباء و الماء و بالتعيينات و مكافحة الفساد الاداري بعد انسدت بوجوههم كل الابواب . . الاّ ان فتح النيران الحكومية عليهم و سقوط قتلى و جرحى منهم بلا اسباب موجبة، جعلتهم يثورون و ينفجرون بوجهها لتتوسع التظاهرات و لتشمل اقضية و نواحي البصرة و لتتوسع اكثر بسقوط عدد اكبر من الشباب شهداء للقمع الحكومي، لتشمل كل محافظات الجنوب بغالبيته الشيعية الذي تعتبره الاوساط الحاكمة قلعتها الثابتة . .
و قد خفتت حدة الاحتجاجات باقتراب موعد انتخابات 2018 و تسابق المرشحين لجزل انواع الوعود لايجاد حلول للمطالب الانسانية، و استمر عين الكذب من مسؤولين اميين لم يتقنوا الاّ الكذب و الخداع المخزي و وضع الحلول على الإرادات المقدسة، و كأنهم يتعاملون مع شعب من شعوب القرون الوسطى . . و بدأت تلوح نتائج الانتخابات من الاعمال التحضيرية لها و بنفس الوجوه من المتسابقين للترشيح او بتفويضهم، و بدأ جواب الجماهير العريضة بمقاطعتها التي بلغت اكثر من 50 % ممن يحق لهم المشاركة . . و ليتواصل صراع الكتل الحاكمة بشتى اتهامات التزوير و حرق صناديق الاقتراع و الى العد اليدوي و اليأس من المحاصصة و الغضب الشعبي يتصاعد . .
لتندلع الاحتجاجات الغاضبة في البصرة مجدداً . . البصرة رأس نفيضة العراق التي تحمّلت آلاف اطنان القنابل من حروب صدام و ايران و التحالف الدولي و قدّمت عشرات آلاف الشهداء . . البصرة التي انطلقت منها انتفاضة ربيع 1991 ضد الطاغية صدام حين فرّغ عسكري شجاع رصاصه على جدارية الطاغية الارعن صدام في ساحة ام البروم لتشتعل و تعم الانتفاضة البلاد باجمعها حينها . .
انطلق الغضب الهائل بعد تفاقم اليأس من العملية السياسية و كتلها و احزابها التي لم تستطع ان تقدّم اي حلّ للحياة المرّة التي يعيشها ابناء البصرة برجالهم و نسائهم و عوائلهم، لقد انطلق طوفان من الغضب و الحقد على مايجري، و الذي تعيشه البلاد برمتّها و يئنّ منه ابنائها . . مهدداً بشمول لهيبه البلاد باجمعها . ذلك الغضب و اليأس من حلول الدولة و مؤسساتها الذي لم يتسبب به الاّ حكم المحاصصة الطائفية و فساده و انانية حكّامه . .
و ترى اوسع الاوساط الشعبية ان ردّ المتظاهرين على عنف الاجهزة الامنية و رصاصها و غازاتها و استهتارها و سخريتها من الجماهير المحتجة، ردهم بالعنف دفاعا عن النفس و عن الحق بالحياة . . لهو امر متوقع مع الاسف بضوء مايجري، رغم تداخل كل الصراعات و الميليشيات و مشاريع التقسيم عليه، و الجهات الحاكمة مشغولة بالاغراءات و التهديدات و بانقلاب نواب على قوائمهم ليس بوجهة تدمير اسس المحاصصة و انما ركضاً وراء مصالحهم الانانية الضيّقة و كراسيهم المهترئة . .
في وقت ابقى الصراع من اجل الكتلة الاكبر الحكام في ابراجهم بعيدا عن حال الشعب . . غير مبالين بان هناك كارثة وطنية قد تجتاح البلاد باسرها ان لم يسارع الجميع لإنقاذ البصرة بكل السبل الواقعية و العملية . . لقد تحرر الشباب من خوف آبائهم و هم مستعدون للمواجهة التي فرضتها السلطات الحاكمة بظلمها و باهمالها لحياة شباب البلاد و اكتفت بمواجهتهم بالرصاص و بالغازات السامة و بالاختطافات . . و يتساءل كثيرون عن اي التزام بالهدوء يتحدثون ؟؟ الم يكونوا يوماً في النضال ضد الدكتاتورية و حكومات القمع كما يدّعون ؟؟؟
6 / 9 / 2018 ، مهند البراك
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.