معلوم أن الإمبراطور الفرنسي نابوليون بونابرت قام بغزو عسكري للجارة المانيا وقد دافع الالمان عن بلادهم دفاعاً بطولياً أثمر عن دحر العدوان الفرنسي وأسر بعض القوات الغازية وتطويق البعض الاخر واسر الإمبراطور الفرنسي نفسه.
كارل ماركس وهو يتابع تطورات العدوان الفرنسي حذر من ان تتحول المانيا الى دولة معتدية وتقوم بغزو الأراضي الفرنسية بعد دحر العدوان الفرنسي. وهذا ما تم فعلاً إذ اقتحمت القوات الألمانية الحدود الفرنسية واقتربت كثيرا من العاصمة باريس.
باريس بعد اسر الإمبراطور والغاء الامبراطورية واعلان الجمهورية واجهت فراغا في السلطة تم التغلب عليه بتشكيل حكومة دفاع وطني من مجموعة من اعضاء البرلمان الفرنسي وعلى رأسها السياسي الفرنسي تيير. كما تم تشكيل حرس وطني للدفاع عن العاصمة الفرنسية من متطوعين باريسيين تم تسليحهم بأسلحة دفعت اثمانها من تبرعات جمعها عمال باريس قبل أي طرف اخر.
كتب ماركس عن مواصفات رجال الحكومة المؤقتة حكومة الدفاع الوطني – وعلى رأسها "تيير" انهم مجموعة من النصابين المخادعين، الفاسدين سارقي ثروات الشعب الفرنسي. وعن تيير نفسه : (خلب تيير هذا القزم الفظيع، لب البرجوازية الفرنسية خلال نصف قرن تقريبا لأنه كان التعبير الفكري في اتم صوره عن فسادها الطبقي وقبل ان يصبح من رجال الدولة كان قد اظهر مواهبه في الكذب بصفته مؤرخا) انه استاذ في اعمال النصب الحقيرة بحق الدولة فنان في الحنث والخيانة، ابن حرفة في الدسائس المبتذلة والحيل الدنيئة والمكر الشائن لنضال الاحزاب البرلماني، لا يتورع عن إشعال الثورة عندما يطير من منصبه وعن اغراقها في الدماء عندما يتولى زمام الحكم، مملوء بالأوهام الطبقية بدلا من الأفكار، وبالزهو بدلا من القلب، حياته الخاصة شائنة بقدر ما هي حياته الاجتماعية كريهة)
قيادة الحرس الوطني كانت تلاحظ وجود اتصالات سرية بين رجال الحكومة المؤقتة والزعامة الالمانية.
ماركس كان يلاحظ الحماسة الثورية المسيطرة على بروليتاريا باريس وهذا ما دعاه الى توجيه تحذير الى عمال باريس في عدم الاندفاع باتجاه المغامرة غير المحسوبة النتائج وخصوصا اعلان الكومونة في باريس فالحياة لم تطرح بعد هذا الخيار. وماركس وانجلز كانا يؤكدان دائما على ان البشرية لا يمكن ان تطرح على نفسها مهاما لا تستطيع انجازها. وكان يخشى ان تتضامن برجوازيات الدول الرأسمالية الكبرى مع البرجوازية الفرنسية في مواجهة الكومونة اذا ما اعلنت في باريس.
ماركس في مؤلفة الحرب الاهلية في فرنسا دعا عمال باريس الى الاستفادة من بحبوحة الديمقراطية التي توفرها حكومة "تيير" وعدم التفريط بها وعدم توفير الفرصة للحكومة البرجوازية الفرنسية للتحول من الديمقراطية المحدودة المتوفرة الى نهج التنكيل بالبروليتاريا الفرنسية.
(..... وعلى ذلك تجد الطبقة العاملة الفرنسية نفسها في حالة صعبة للغاية. فكل محاولة لقلب الحكومة الجديدة في وقت الازمة الحالية اذ يكاد العدو يدق ابواب باريس، تكون من جنون اليأس. ينبغي على العمال الفرنسيين أن يؤدوا واجبهم كمواطنين، ولكن لا ينبغي ان يسمحوا لأنفسهم بان تغرر بهم التقاليد القومية لعام 1792. كما سمح الفلاحون الفرنسيون لأنفسهم بان يخدعوا بالتقاليد القومية للإمبراطورية الاولى. ينبغي عليهم ان لا يستعيدوا الماضي بل ان يبنوا المستقبل فليستعملوا بهدوء وعزم جميع الوسائل التي تعطيهم اياها الحرية الجمهورية لكي يوطدوا بصورة ارسخ تنظيم طبقتهم الخاصة) وأضاف (وعلى قوتهم وحكمتهم يتوقف مصير الجمهورية)– المختارات، الكتاب الثاني ص 157.
حكومة "تيير" بعد ان اطمأنت من خلال تأكيدات القيصر الالماني بان دخول القوات الالمانية الى الاراضي الفرنسية كان لضرورات قتالية وليس بهدف احتلال الاراضي الفرنسية وهي الخائفة من وجود السلاح بيد الشعب المسلح اصدرت الاوامر لتجريد الحرس الوطني من السلاح فرد الحرس على سعيها ذاك بالتمسك بسلاحه واعلان الكومونة.
ماركس حيّا قيام الكومونة بعد ان كان قد حذر من ذلك. فاعلان الكومونة اصبح الخطوة التي لابد منها لمواجهة حكومة "تيير" التي هربت من باريس الى فرساي وقد ذكر موضحا موقفه ذاك بان كتب (وضعوا امام الباريسيين حلّين لا ثالث لهما : أما قبول التحدي والنضال واما الاستسلام بلا نضال.ولو تحقق الحل الثاني لكان تفسخ معنويات الطبقة العاملة كارثة) وهذا ما كان يكرهه ماركس. لينين في مقالته المعنونة (دروس الكومونة) ذكر بان ماركس (حيّاها وسار الى جنبها يقدم لها المشورة ويتعلم منها).
اما السياسي والفيلسوف الانكليزي موريس كورنفورث فقد كتب عن موقف ماركس ذاك (ان ماركس اخذ يقدم المشورة للكومونة وكان يخاطبها وكأن القتال يدور خلف اسوار لندن).
ومعلوم ماذا كانت النتيجة.
المهم ان تلك النصيحة التي تقدم بها ماركس الى بروليتاريا باريس بان تستفيد من بحبوحة الديمقراطية المتوفرة وعدم التفريط بها وتجنب سلوك المغامرة الثورية. مؤشر على مدى انسانية ماركس وحرصه على ارواح ودماء بروليتاريا باريس وانها كانت تشكل درسا لنا نحن الشيوعيين العراقيين ونحن نمارس العمل السياسي في ربوع بلادنا.
الشهيد فهد، في التقرير الذي قدمه الى المؤتمر الأول للحزب عام 1945 أشار الى أن السلطة الملكية في العراق ستقوم بالتنفيس في الاوضاع السياسية في البلد وستوفر بعض الحرية ونبّه الى ضرورة الاستفادة من ذلك التنفيس الذي سيحصل واحد محاور تلك الاستفادة إقران العمل السرّي بالعمل العلني وعلى هذا الاساس تقدم الرفيق الشهيد حسين الشبيبي بطلب تأسيس(حزب التحرر الوطني) وتقدم بعض الرفاق من الطائفة اليهودية بطلب تأسيس (عصبة مكافحة الصهيونية) وغيرها.
وفي التعديل الذي اجرته اللجنة المركزية للحزب عام 1956 على احد استنتاجات الكونفرنس الثاني للحزب الذي عقد قبل بضعة اشهر من الاجتماع جاء التأكيد بان لجوء الحركة الوطنية لاستخدام العنف ضد النظام متأت من سياسة النظام نفسه ولجوئه الى سياسة العنف والاستبداد ضد الشعب وعندما نضجت الظروف الموضوعية وتكامل العامل الذاتي طرحت على بساط البحث مسألة اسقاط النظام الملكي واعلان الجمهورية الأمر تحقق في ثورة الرابع عشر من تموز 1958 واصبحت مسألة تمتع الشعب بالحريات الديمقراطية ضرورة لابد من تحقيقها.
ومازالت ترن في اذني اهازيج الشعب في مسيراته الابتهاجية التي تجسد تلك الشعارات ومنها على سبيل المثال
(عيني اكريم للأمام ديمقراطية او سلام)
(هربشي كرد او عرب رمز النضال)
(طهر جهاز الحكم يا عبد الكريم قاسم)
ولم ننس ايضا ديالكتيك تطور المجتمع. فقد كنا ندرك اننا نتعامل مع سلطة وطنية انبثقت من ثورة فاستمدت منها شرعيتها الثورية، وعليه ورغم تحفظاتنا على بعض جوانب عملها وفي مقدمة تلك التحفظات استبعاد الحزب الشيوعي العراقي من تشكيلة حكومة الثورة التي مثل فيها باقي اطراف جبهة الاتحاد الوطني التي تشكلت عام 1957، ولا ندع التناقض معها - - مع السلطة – وهو الثانوي في تلك الايام بأن يتحول الى تناقض اساسي الذي كان بين الشعب بكامل قواه الوطنية وسلطته الوطنية مع الامبريالية العالمية ومخططاتها الموجهة لاحباط الثورة واسقاط حكومتها الوطنية.
ومعلوم ان سياسة الحزب في تلك الفترة تمثلت في الشعار (تضامن كفاح تضامن) أي نتضامن مع السلطة، نكافح ضد أخطائها من اجل أعادة التضامن.المحزن أن جهود الحزب تلك كانت تصطدم بالموقف المتردد من جانب زعيم الثورة والمتساهل تجاه النشاطات التخريبية للقوى المرتبطة بالدوائر الاستعمارية واحد تلك النشاطات كان دق اسفين في العلاقة بين الحزب وزعيم الثورة والتي نجحت في اخافة الزعيم من الحزب وتطور جماهيريته ومن بقاء الشعب يتمتع بحرياته الديمقراطية المحدودة.
وقد دفع الزعيم ثمن تردده ذاك وقضمه التدريجي للحريات الديمقراطية منذ النصف الثاني لعام 1959 وخوفه غير المبرر من تطور نشاط القوى الديمقراطية في البلد.
وعندما احس عام 1962 بخطورة الوضع السياسي المأزوم والذي صنعه بنفسه نتيجة للأخطاء السياسية القاتلة التي ارتكبها وحاول التراجع عنها لم يستطع فقد كان العد العكسي لسقوط حكومة الثورة وسيطرة القوى الفاشية على مقاليد السلطة قد بدأ وكانت ساعة الصفر تقترب بسرعة. وهذه التجربة الغنية من تاريخ بلادنا يجب الاستفادة منها من قبل الحكومة العراقية التي سيشكلها البرلمان الجديد.
في عام 1970 و 1971 واجهت منظماتنا الحزبية منذ اغتيال الشهيد محمد احمد الخضري اواخر اذار 1970 حملة ارهابية شرسة كلفتنا الكثير من التضحيات والعديد من الشهداء في المقدمة منهم الشهيد علي حسين برزنجي والمرشح لعضوية اللجنة المركزية للحزب وأضعفت بعض منظماتنا الحزبية وبالمقابل اضعفت سلطة البعث نفسها بتلك الحملة الارهابية التي سلطتها على منظمات حزبنا ومحاولتهم الشائنة لاغتيال الملاّ مصطفى خريف عام 1971
فمالوا الى التراجع وغيروا تكتيكهم. وفي اواخر عام 1971 أصدروا اوامرهم الى اجهزتهم الامنية بالكف عن (كشف خلايا الحزب الشيوعي) وفي نهاية الشهر العاشر من العام نفسه عرضوا عبر الاجهزة الاعلامية مشروع برنامج لتحالف جبهوي. ومعلوم ان الحزب وقف موقفا ايجابيا من تلك المبادرة وعرض الدخول في حوار يستهدف الوصول الى صيغة مقبولة للبرنامج المقترح. وبدأ الحوار فعلا وتم كما هو معروف التوقيع منتصف تموز 1973 على ميثاق الجبهة.
وباستثناء اغتيال الشهيد شاكر محمود العلوي وبعض الحالات الفردية المحدودة لم تشهد الفترة منذ أواخر عام 1971 حتى أواخر عام 1976 أية حملات اعتقال ضد رفاق ورفيقات الحزب بحيث توفرت الفرصة لمنظمتنا الحزبية أن تستقبل افواج المنتسبين الجدد للحزب وتجيد تربيتهم وتثقيفهم وأعدادهم ليكونوا مناضلين بواسل ارتقى الكثير منهم وبكل رحابة صدر أرجوحة الأبطال وواجه الكثير منهم وببسالة نادرة كل اساليب التعذيب البشع في معتقلاتهم السرية وغير السرية.
كما استثمرنا وجودنا في الجبهة وحتى قبل الدخول في التحالف ان نفرض عليهم أسلوبا جديدا في التعامل مع الشعب الكردي في العراق هو غير اسلوب العنف والعدوان المسلح ضد الكرد، أسلوب التعامل الايجابي مع الحقوق القومية للشعب الكردي وعملنا من اجل أن يصبح الحكم الذاتي للشعب الكردي في العراق امرا واقعا ولم يكن حملهم على التعامل السلمي مع الشعب الكردي بالامر الهين آنذاك.
لقد مدت لنا اليد من اجل الدخول في تحالف مع حزب قائد للسلطة وفقا لبرنامج مقبول. فماذا كان سيجلب لنا رفضنا تلك الدعوة؟
لقد كان رفضها يعني تشديد الإرهاب الفاشي ضد منظماتنا الحزبية التي كنا بحاجة ماسة لتوفير الظرف الملائم لإعادة بنائها ولم يكن عن موقف كهذا منا سيرضي أيا من الأحزاب الشيوعية في مختلف الأقطار في الكرة الأرضية.
في حين ان انسحابنا من التحالف ومغادرته رسميا ربيع عام 1979 لم يوجه لنا النقد من الاحزاب الشقيقة والصديقة واكثر من هذا كان اللوم والتقريع لهم وحدهم واصبحوا من المغضوب عليهم كما لم ينتقد الحزب الشيوعي العراقي أي طرف سياسي داخل العراق او خارجه يوم باشر بالكفاح المسلح لاسقاط حكومة صدام حسين ذلك الكفاح الذي استمر لعشر سنوات كاملة منذ العام 1979 حتى العام 1988. لقد دعا كارل ماركس عمال باريس للاستفادة من بحبوحة الديمقراطية التي كانت مفروضة فرضا على حكومة "تيير" المؤلفة من مجموعة من الحكام الفاسدين، النصابين. فماذا كان سيقول عنّا لو كنا قد رفضنا اليد التي امتدت الينا عام 1971 للدخول في تحالف وفقا لبرنامج لنهج سياسي تقدمي يوفر تطبيقه انطلاقة للعراق في طريق التقدم الحضاري؟
وماذا كان سيقول عنا لو رفضنا الدخول في تحالف سائرون للإصلاح القائم على اساس ضمان الاستقلالية السياسية والفكرية والتنظيمية لكل طرف من اطراف التحالف ووفقا لمفاهيم العمل من اجل خوض الانتخابات بتحالف عابر للطائفية، تحالف للعمل على مكافحة الفساد، تحالف للعمل من اجل بناء الدولة العراقية على أساس المدنية وأساس المواطنة وليس الهويات الفرعية والالتزام ببنود الدستور الذي ينص على ان العراق دولة ديمقراطية، برلمانية، تعددية، اتحادية، يجري التداول السلمي للسلطة فيها من خلال نتائج الانتخابات التي تجري كل أربع سنوات وما تفرزه صناديق الانتخابات؟ الدستور الذي ينص أيضا على كفالة الدولة حق المواطن في التعبير عن رأيه بمختلف اشكاله. الدستور الذي ينص في أحدى مواده على أن اية تعديلات تجرى لاحقا على الدستور لا يمكن ولا يحق لها ان تمس الباب الأول منه والذي ينص على كفالة الدولة حريات الشعب الديمقراطية وحقوق الانسان في العراق.
وأذكّر هنا بما قاله ماركس يوم وضع الرفاق الفرنسيون لأنفسهم برنامجا خاطئا وادعوا بأنهم يطبقون الماركسية على ظروف فرنسا، اذا كانت هذه هي الماركسية فانا لست بماركسي).
يتحدث بعض الاخوة ان الجبهة عام 1973 كانت فخا لنا من اجل كشف كوادرنا لاعتقالهم وتصفيتهم فهل كان الامر كذلك؟ وهل كانت الكوادر التي التحقت بالعمل في لجان الجبهة غير مكشوفة واصبحت بعد ذلك مكشوفة؟
- في لجنة الجبهة في بغداد كان الرفيق الراحل حسين سلطان صبي والشهيد الدكتور صباح الدرّه.
- وفي لجنة الجبهة في كربلاء عمل الرفيقان الشهيد علي محمد النوري ومحمد كاظم النهر
- وفي لجنة الجبهة في النجف عمل الرفيقان محمد حموزي وكاظم ستارالبياتي. - في لجنه الجبهة في بابل عمل الرفيقان الشهيد فاضل وتوت ومعن جواد.
- في لجنة الجبهة في الديوانية عملنا انا والرفيق الراحل عبد الامير ناصر الجميلي وكنا نحن الاثنان معتقلين في مركز شرطة الشامية عام 1963.
- في لجنة الموصل عمل الرفيق الراحل ابو جوزيف، توما توماس، قائد الانصار البيشمركه في مناطق القوش منذ العام 1963
- وفي لجنة كركوك عمل الرفيق الراحل عادل سليم
- وفي لجنة واسط عمل الرفيق الراحل هاشم جلاّب
- وفي لجنة البصرة عمل الرفيق الشهيد ابو زيتون – محمد جواد طعمة البطاط.
- وفي لجنة الانبار عمل الرفيق الراحل صباح الكبيسي.
وهذه الاسماء اذكرها على سبيل المثال. فعن أي كشف للكوادر يتحدث المتحدثون؟
واكتفي بهذا القدر من استذكار تجارب نضالنا ونضال غيرنا.

عرض مقالات: