الاحتجاجات الشعبية السلمية التي اندلعت في اغلب محافظات الوطن، جاءت تعبيراً عن واقع مرير ومؤلم عاشته الطبقات الكادحة المسحوقة التي تمثل الاكثرية المحرومة في هذا البلد الغني بثرواته وكوادره، والذي مع الاسف عبر تاريخه لم تالف انظمته الدكتاتورية مراعاة الفقير ما عدى فترة بسيطة من تاريخه، هي ثورة 14 تموز المجيدة، ولم تُسن خلال هذا التاريخ قوانين تحمي حقوق ابناء الشعب، واذا ذهبنا ابعد لوجدنا ان الغزاة والحكام   قد سقوا ارض العراق قديماً انهرا من الدماء  كما وصفها الجواهري الخالد:             

 

يا أم نهرين استفاضا دما من بعد حام وسام

من عهد حومراب اذ نينوى

فبابل للكون فيه اتكان

افتي بأن الحرمات الحرام

ديست حلال وسواها الحرام

افتي بان الطفل بعد الرضاع يفطم والذبح له كالفطام

ثم يصف الحكام ودجلهم

فيقول :

ياعبد حرب وعدو السلام

ياخزي من زكى وصلى وصام

هذا عبد الحرب الذي كان بانقلاب شباط الاسود (حرس قومي رقم واحد) ثم انقلب على البعثين ليس لتصحيح مسارهم الفكري الدموي، وانما لاكمال طريقهم طريق الدم والمقابر الجماعية، فقد تم في عهده اعدام المئات من المناضلين من شيوعيين ووطنيين وديمقراطين مخلصين لشعبهم، ولم يكتف بذلك بل قام بتصديق احكام اعدام مؤجلة من السابق،

عبد السلام هذا المتآمر على ثورة 14 تموز وقياداتها وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم لم يتعرض قانون السجناء السياسين 35 لسنة 2013 لتلك الفترة السوداء من حكمه التي امتدت من 18 تشرين 1964 لحين سقوطه بطائرة كان يستقلها مع مجموعة من اعوانه في النشوة في البصرة وما لاقاه السجناء السياسيين من بطش وتنكيل وحرمان وإعدامات في عهده.

ثم يأتي العهد الجديد على انقاض نظام البعث الدكتاتوري الساقط، ليستبشر ابناء الشعب العراقي خيراً. لكن فرحتهم لم تدم، حيث حل نظام المحاصصة البغيض بديلاً، ليزيد معاناة ابناء الشعب العراقي ويزيد كما يقال (الغركان غطة)، حيث اخذ مجلس النواب الذي ضم في صفوفه بعض من كان حتى الامس القريب يدافع عن نظام البعث وبعضهم كان يضع ورقة الانتخابات في الصندوق متحديا (هذه ورقة البعث) !!! اخذ هذا المجلس ولثلاث دورات يشرع القوانين ويعدلها حسب مايراه ملائما وتوجهه، لتصب في نهاية المطاف في خدمة المتنفذين الفاسدين اعداء الشعب العراقي وسارقي لقمة عيشه، وهناك من المفارقات العجيبة والغريبة في تشريع القوانين، مثلاً قانون 35 سنة 2013 المعدل يشمل سجناء الراي والمعتقد فقط لفترة حكم البعث البائد من 17/7/ 1968 الى 18/11/2003، ويتخطى المئات من سجناء الرأي والمعتقد من الشيوعيين العراقيين الذين تصدوا بشجاعة نادرة باعتراف الجلادين في 8 شباط الاسود دفاعا عن سيادة الوطن واستقلاله وثورة 14 تموز المجيدة وقد اعترفت قيادات من البعث والقوميين العرب في حينها انهم جاءوا بقطار امريكي  لإيقاف الحصان الجامح وتهديد استقلال الوطن وسيادته خدمة لاسيادهم ،

وبعد مطالبات وضغوط لاحتساب الفترة المذكورة تم احتساب ذلك على مضض (وبالاقصاد) حيث لازال الكثير من السجناء السياسيين لم تحسب لهم ويجري المماطلة من قبل الاجهزة المتنفذة والحاقدة على التقدميين والديمقراطيين والشيوعيين، ومؤسسات الدولة زاخرة بهم، والمفارقة القانونية الاخرى التي حملها العهد الجديد هو تعويض من قام بتدمير البلد من فدائي صدام وازلامه من البعثتين ممن تلطخت اياديهم بدم احرار العراق ومناضليه، حيث تم احتساب الخدمة لهؤلاء اضعاف ماتم احتسابه لشهداء المقابر الجماعية، والمفارقة الاخرى المخجلة هو تصنيف (التوابين) وهم البعثيين الاسرى في ايران والعائدين بعد السقوط، حيث قام المتنفذون الفاسدون بايجاد (تخريجة)! اطلقوا عليها (التوابين) لادخالهم في العملية السياسية وارجاعهم الى وظائفهم واحتساب سنوات (التوبة) خدمة لاغراض العلاوة والترفيع، علما ان هؤلاء قد التحقوا في الكثير من الاحزاب الاسلامية !! بعد عودتهم وخاصة حزب الدعوة ليكونوا قوة انتخابية في الانتخابات تضاف الى حجم الحزب! حتى ان بعضهم تسلق سريعاً ووصل الى مكاتب رئاسة الوزراء!

المفارقة الاخرى والأخطر هي قانون العفو العام الذي بموجبه تم اطلاق الكثير من الفاسدين وأعداء الديمقراطية والوطن وذهبوا بما نهبوه دون محاسبة اضافة الى اطلاق سراح بعض الارهابين المجرمين!

والمفارقة الاخرى الجديدة هي (ترويج) معاملات (ارهابين) بدعوة شهداء قتلهم (داعش) في الموصل والرمادي وصلاح الدين وقد تجاوزت المعاملات 150.

هذا غيض من فيض  من القوانين التي سنت وشرعت، يعطيك صورة الاوضاع المزرية والفوضى التي يسير عليها متنفذوا المحاصصة والى اين يقودون البلد وشعبه؟ بالتأكيد الى الحالة التي يمر بها المواطنون اليوم وما يرافقها من احتجاجات وغضب مشروع لجياع تُبدد ثروة بلادهم على اعداءه من الفاسدين وحواضنهم الذين اقسموا على تجويع الشعب واهانته والدوس على كرامته.

كيف يجري قلب الحقائق؟ حراك احتجاجي سلمي لجياع خاوية البطون ينامون متوسدين الارض وملتحفي السماءً، لاماء ولا كهرباء ولا عمل ولا سكن، ينعتون بالمندسين والبعثيين!! وغيرها من التسميات التي رافقت انظمة القهر والتسلط، وبالمقابل مندسون حقيقيون في اجهزة الدولة، فاسدون منافقون انتهازيون بعثيون متخمون من المال الحرام يغدقون على انفسهم امتيازات بقوانين من صنعهم، واخرها تسريب قانون التقاعد خلسة، على حساب لقمة عيش الكادحين والفقراء، (ويجاهرون علنا انهم قادمون) وعلى رؤوس الاشهاد ويتقلدون مناصب حساسة لم يقترب منهم احد بل بالعكس يصار الى بعضهم في اتخاذ اجراءات لخبرتهم المكتسبة من الانظمة السابقة وخاصة نظام المقابر الجماعية، في قمع المحتجين واتباع اساليب التعهدات السيئة الصيت والمشينة لكرامة الانسان العراقي.

ان غضب الجماهير وتحركها هو للمطالبة بحقوقها المشروعة والتي نُهبت خلال الخمسة عشر سنة دون ان تجد بصيصا من الامل، وبعد ان وجدت ان هناك من يستغفلها من المتنفذين الفاسدين، علما ان هذه الجماهيرالمحتجة هي من تصدى للارهاب وقوى الردة بشكل دائم، وليس هناك من يزاود على وطنيتها واخلاصها للوطن، خرجت اليوم وهي كما يقول محمد صالح بحر العلوم:

وهي لاتملك من دنياها شبرا

تترجى الموت كي تحصل بعد الموت قبرا

نعم خرجت بعد ان طفح الكيل لتعلن ان فترة الصبر قد انتهت وما على الفاسدين والمتنفذين منهم ان يرجعوا الحقوق المسلوبة لابناء الشعب وألا فأنهم سيستمرون وسيتوسع نضالهم وان اي تشكيل لحكومة جديدة لم يأخذ المتغير الجديد في وعي الجماهير ورسائلها ويعلن الطلاق مع نهج المحاصصة الطائفي القومي البغيض، فان المحتجون قد حسموا امرهم لتشكيل معارضة واسعة شعبية سلمية مكانها الشارع وليس البرلمان وهي بذلك ستشكل ضغطا يتسع لتغيير ميزان القوى لصالح التغيير الحقيقي، وتتجاوز بذلك الفاسدين ونهجهم المحاصصي الفاشل، ومن يعتقد ان المسكنات والهروب الى الامام قد يجدي نفعا ً فهو واهم ومصاب بلوثة عقلية فكرية، فقد انكشفت الحقيقة للجماهير الغاضبة ولا يستطيع اي غربال ان يخفيها عن الاعين الثاقبة.

وكما قال الشاعر عبود الكرخي وكانه حاضراً اليوم مع مطاليب الجماهير منطلقاً من البصرة والتي عودتنا على الرفض وعدم الاستكانة على الضيم دائماً.

يقول عبود الكرخي : خل يجي يشوف الرصافي

                      البصرة والكرخ الصحافي

     الهوش يشرب ماي صافي

واسد ضامي بالوطية

الله يقبلها الكسيفة   الصيف بنكة الشتا صوبه

واخت رزنه اتعيش ضنكه   اتنام نوم القهر هيه  

عرض مقالات: