يتوزع الملايين من أطفال وشباب العوائل العربية المهاجرة في أنحاء العالم، ويعاني هؤلاء من الكثير من المشاكل الإجتماعية والنفسية والثقافية.

١ - المشاكل الإجتماعية والنفسية:

تتلخص مشاكل الأطفال والشباب النفسية والإجتماعية في المهجر بظهور الكثير من الإختلافات الجوهرية في الفهم الصحيح للقيم الإجتماعية والإنسانية وهي تتراوح ما بين الفهم الإجتماعي العربي والأجنبي للقيم، مثل قيمة الشرف، الكرامة، الإختلاط بين الجنسين، التواصل العائلي والمجتمعي، الفهم الصحيح للدين، الخطوط الحمراء ما بين حرية الفرد وحق المجتمع، حرية الرأي وتقبل الرأي الآخر مع الفوارق أو الفجوة ما بين الأجيال.

لمعالجة هذه جميعاً بالفهم الوسطي للأمور وليس المتشدد إبتداءاً بمفهوم الدين والقيم الأخلاقية الأخرى، مثل قيمة الشرف والكرامة يجب تعدي الفهم السابق والسلفي لهذه القيم، ويؤكد التاريخ الإجتماعي للمجتمع العربي أنه لا تهاون أو تسامح في هاتين القيمتين، ومما يُعرف عن العربي إحساسه العالي بقيمة الشرف والكرامة وهو ضمن المحافظة على الإسم العائلي والأنساب ويبقى إسم العائلة هو المروج لزواج بناتها وأبنائها ولنجاح تجارتها وللنجاح المهني بكافة أشكال المهن، ولنجاح العلاقات الإجتماعية ولسعادة الأسرة بأكملها، ويكاد يكون تطبيق القيمتين متشابه في الريف والمدينة إلا أنه أكثر تشدد في الريف. لكن هاتين القيمتين لا تعني الكثير للفرد الأوربي بمفهومها العربي، وعلى الطفل أو الشاب العربي أن يتقبل ذلك ويأخذ حدوداً وسطية في تطبيقها، فلا يتعدى الخطوط الحمراء للعائلة وبنفس الوقت يتقبل مفهوم الإختلاط بين الجنسين والعلاقات العاطفية. نلاحظ هنا أن قيمة الشرف والكرامة لا تشكل أساساً من أساسيات الحياة، بل أن لدى الفرد الأوربي إطار أوسع في هذه المفاهيم، فهو صادق في شرفه المهني، وصادق في بناء علاقاته وغير مجبر عليها، يبني كرامته على ضوء حقوقه الفردية، وكرامته مُصانة لأن المجتمع أعطاه حق الاختيار وحق الرفض مع وضع الحدود ما بين حرية الفرد وحرية الآخرين، فهو لا يمتلك حق التشهير بفرد ما، أو سلب ملكية فرد ما، أو الإضرار بالملكية العامة، ويضمن المجتمع له كرامته وحقوقه المدنية والقانونية ولا يحتاج إلى أخذها بحد السيف. ويلاحق المجتمع هنا الحلول القسرية مثل الزواج القسري أو الزواج المبكر أو الاغتصاب أو ختان الإناث ويعاقب عليها القانون بشدة.

لقد حدثت الكثير من حوادث القتل (غسلاً للعار) من قِبل الفئات العربية  داخل المجتمع الأوربي، ويحدث هذا بسبب أقصى التشدد من قِبل الجيل السابق وأقصى التحرر من قِبل الجيل الشاب، وعدم إستطاعة الطرفين تقريب وجهات النظر حتى لا يميل الجيل السابق إلى أقصى اليمين والجيل اللاحق إلى أقصى اليسار، ويمكن لجيل الشباب عدم التفريط بالأطر التراثية مع إعطاء حدود واسعة لاختياراته خاصة فيما يخص تقرير مصيره أو مستقبله أو شريك حياته. وإن لم يستطع الجيلان التوفيق بين آرائهما فسيدخلان بدايات القمع القسري، وقد يضيع الطفل أو الشاب ما بين ما يتعلمه في البيت أو في المدرسة والمجتمع إلا إذا كانا محظوظين بوالدين متفهمين يضعان أمامهم القواعد الإجتماعية الجديدة مع إحترام القيم العربية.

يبقى الدين الفاصل الكبير ما بين التفهم والتطرف ، فقد يرى الشاب العربي في المهجر بأن كل شيء مباح ضمن القانون ويرى حرية الأديان مع سيادة الفكر المادي ثم يبدأ بالتحيز للدين فيتشدد ويتطرف، فيبدأ بتخريب الحدود التي وضعها له المجتمع، فيحاول أن يثبت معتقداته بالعنف وينقل رمال الصحراء إلى بلاد الديمقراطية والعلوم والتكنلوجيا، ويأخذ هؤلاء الشباب للتشبه بالأجداد بتغيير السحنة والملابس وهو غافل عن الحقيقة التي تثبت بأن هذه البلدان لا يُقفل فيها جامع أو كنيسة والكل سواء. كما يمكن أن ينحرف الشاب إلى أقصى الحرية المباحة وقد يتعداها إلى غير المباحة فقد يُدمن المخدرات أو يتاجر بالسلاح أو تمارس الفتيات الدعارة، وهو ما تحاربه هذه المجتمعات بين جميع الأفراد.

إن بذرة التطرف أو المغالاة تبدأ من العائلة، وقد يكون الوالدان وسطيان إلا أنهما غير متابعين لنمو الأبناء الإجتماعي ولعلاقاتهم الإجتماعية، وتلعب الميديا الإجتماعية دوراً كبيراً في هذا، أي في إنحراف الأبناء أقصى اليمين أو أقصى اليسار، إن الأغلبية من شباب الجالية العربية يعيشون ضمن أُطر سليمة وقد سار الكثير منهم على النهج الصحيح من الوسطية في فهم القيم ويتميزون بالتألق في الحياة العملية.

نحن لا نستطيع أن نشير بأصابع الإتهام للقيم الأوربية بل أن في هذه القيم الكثير من الأطر الإنسانية النبيلة. أما القيم العربية فقد حضينا بها سابقاً وأفسدناها لاحقاً. إن المجتمع الأوربي ينتشل الفئات الضعيفة والعاطلين وانتفى لديهم شيء إسمه التمييز العرقي أو الجنسي أو الديني أو التمييز ضد الأقليات، وعلى الشاب العربي أن ينظر إلى هذا الإتجاه ولا يقلد المظهر الخارجي للفرد الأوربي ويتخذ له مظهراً وباطناً سوياً يجلب إحترام المجتمع الجديد الذي يعيش فيه، فلن يُحدد مستوى حضارة الشاب العربي عدد الرقع الموجودة في بنطاله أو طول شعره، بل يجب أن يؤمن أنه يعيش في مجتمع يحارب أعمال الجريمة المنظمة أو الفردية ويحارب ظاهرة البطالة، كما يحارب الظلم الإجتماعي، وأن يستفيد حقاً من جوهر هذا المجتمع لا من مظهره الخارجي.

٢ - المشاكل الثقافية :

تبدأ المشاكل الثقافية للطفل ثم للشاب العربي منذ المرحلة الإبتدائية، وهذا ينطبق على المولودين في المهجر، ويتراوح الطفل ما بين اللغة العربية السائدة في البيت واللغة الأجنبية السائدة في المجتمع الجديد، وعلى الوالدين المحافظة على اللغتين، والأطفال قادرون على تعلم عدة لغات في آن واحد، والمحافظة على اللغة العربية تعني الكثير، فهي المحافظة على الصلة مع الوالدين والمجتمع القديم وإكتساب ما يراه صالحاً من التراث القديم، كما يبقي هذا صلته بالدين والعرق الذي إنحدر منه، فالثقافات الآسيوية تحمل الكثير من الإرث الجميل والقيم الطيبة لكنها أيضاً قد تحمل بعض القيم التي فقدت صلاحيتها. وتشكل الأسرة أفضل معهد لتعلم اللغة العربية وأشياء عظيمة من الأدب العربي، ويمكن للأم إستخدام وسائل مختلفة لتعليم الطفل بإستخدام الصور مقرونة بالحروف والأبجدية ثم مزجها مع بعضها لتكوين الكلمات، والصورة هي أبلغ من الكلمة وأكثر تأثير وأبقى في الذاكرة، ويمكن أيضاً إستخدام الحروف المُلصقة على الألواح الملونة مع التأكيد على النطق الصحيح.

ويمكن إستخدام قصص الأطفال المصورة لصياغة جملة قصيرة تحت كل صورة وجعلها مرقمة ومتسلسلة مما ينمي القدرة على صياغة الجمل لدى الطفل، وكما يتعلم الطفل الأبجدية من الأم يتعلم القيم النبيلة منها أيضاً. ولا يتعارض ذلك مع تعلم الطفل العلوم والتكنلوجيا والآداب الغربية ويمكن صهر ذلك لتكوين إنسان متكامل ومتأقلم مع المجتمع الجديد. وتلعب المدارس العربية في المهجر دوراً جيداً في تعليم العربية والأدب العربي، ويتفق الأدب العربي مع الأدب الغربي وخاصة الكلاسيكي في عمق الأطر الإنسانية والتشابه في النظرة إلى الفقراء والبؤساء ونبذ الحروب والتفكك الأسري.

إن الرفض الحالي لبعض الشباب العربي في المهجر للثقافة العربية أو لتعلم اللغة العربية يُشكل كسراً لجسر التواصل مع الأسرة والأصول العرقية ولا يحقق هذا للشاب العربي سوى الضياع لأنه سيتحرك فوق المجتمع الجديد بلا جذور وكل الأصول العرقية التي تتواجد في الولايات المتحدة مثلاً أو أي بلد أُوربي آخر تحافظ على جذورها، فهي تحتفل بملابسها الشعبية العرقية وبأكلاتها الشعبية القديمة ويظهر ذلك في احتفالاتها الدينية والقومية وفي حفلات الزواج، فلا يجب أن يخجل الشاب العربي من إصوله وجذوره، فرحيق الثقافة العربية الأصيلة مع رحيق الثقافة الأوربية يشكلان مزيجاً رائعاً كذلك مع كل الثقافات. ويمكن للفرد المتحضر أن يقتنص ما يراه مناسباً لحاضره ويركن ما لم يعد صالحاً للإستعمال أو للحياة اليومية.

إن ما تقوم عليه المجتمعات الغربية من أسس علمية وتكنلوجية هو ما يحتاج إليه الشاب العربي لكي يصبح عنصراً فاعلاً سواء في المجتمع الحديث الذي يعيش فيه أو مجتمعاته القديمة، ويبقى البعد الإنساني هو الرابط المشترك بين كل الثقافات.

إن الكثير من المؤلفات الأدبية العربية الكلاسيكية والحديثة مثل مؤلفات نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي قد تُرجمت إلى لغات عديدة وحازت على إعجاب العالم وهذا يعني أن الشباب العربي المهاجر يستطيع أن ينهل من مفردات الثقافة العربية، ولن يُنقص هذا من تكوينه الشخصي بل يزيده رفعة.

إن التجربة القائمة بين الجيلين والحضارتين يمكن ملأها بإستيعاب جوهر الثقافتين وقيمهما الإنسانية، كما يجب توسيع دائرة القيم العربية، فقيمة الشرف والكرامة تأخذ شكلاً واسعاً في المجتمع الأوربي ويتعلمها أولادنا في المدرسة، فالمجتمع الأوربي يفهم الأمانة على أنها الأمانة العلمية والأدبية والمهنية، والحفاظ على الكرامة هو إعطاء الفرد حقه بحرية الرأي وتقرير المصير ولا يُقاضى على ذلك، أما نوع العلاقات ومستواها فهو مسؤول عنها أمام المجتمع وأمام نفسه. إن الحفاظ على ملكية المجتمع والفرد وبضمنها ملكية الجسد هو حق عام ومشروع لكل الأفراد. لكن هذا الحق يتسم بالمطاطية في مجتمعنا العربي، لذا يصطدم الفهمان لهذا الحق.

إن المجتمع الأوربي يفهم معنى الأمانة والشرف بشكل راق ونبيل، ومن خلال ملاحظتي للشباب النيوزيلندي وجدت أن الكثير منهم يتمتع بالنبل والأمانة. ذات يوم كنت أتجول بأحد الأسواق فلاحظت أن عجوزاً قد أسقطت من حقيبتها مبلغاً من المال فأسرع إليها شابان والتقطا المبلغ ولحقا بالعجوز لإعطائها ما أسقطته، ولا يهم هنا إذا كان الشاب قد ملأ ذراعاه (بالتاتوس) أو صبغ شعره باللون الأحمر أو الأخضر، فهو يتمتع بالكثير من الأمانة والرفق الإنساني على الإنسان والحيوان ويقدم الخدمات المجانية لكل محتاج إلى المساعدة بدون أن يعرف إسمه أو عرقه أو دينه وهذا مبدأ حضاري عام. وذات يوم أيضاً كنت في أحد الأسواق العربية فسقطت من يدي عملة نقدية وحينما إنتبهت إلى مكان سقوطها وجدت فتاة شابة تطأ عليها بقدمها وتقول هذه لي.

نحن هنا في هذا العالم لسنا وحدنا الشرفاء الكرام بل تفرز كل الثقافات الآسيوية والأوربية وحتى الأفريقية قيماً جميلة يمكن أن ينهل منها الشاب العربي ما يشاء مما يلائم العصر الحالي ويبتعد عن ما يشاء .

إن الكثير من القيم العربية الأصيلة قد أُهملت وأخذنا نهدم بعضنا البعض جسدياً وروحياً وإلا لِمَ نهدم الجوامع كما نهدم الكنائس ولِمَ نتاجر بالبشر ونستغل عرقهم وأجسادهم ، ولِمَ يتجه الآلاف منا إلى السواحل الأوربية ويخاطرون حتى لو أصبح قاع المحيط وطناً لهم. وعلى هذا يجب أن نُمسك بالعصا من وسطها حتى لا نميل ميلاً شديداً.

عرض مقالات: