الصيدلة مهنـة إنسانية، و أخلاقية تقوم أساساً على العلم، و تحتم على من يمارسـها أن يكون مدرباً تدريباً كافياً على ممارسـتها، و أن يحتـرم المريض والزبون فى جميع الظروف و الأحوال، و تأكيداً علـى أن كل عمل يتضمن صرف دواء يستهدف مصلحة المريض المطلقـة، و أن تكـون لـه ضرورة تبرره من قبل طبيب، و أن يكون الصيدلي مؤمناً بأن الرعاية الصحية هـي أحـد حقـوق الإنسان الأساسية ويعمل من أجل الوفاء بالتزاماته اتجـاه مجتمعه.
مع شديد الأسف لا ترى مثل هذا الالتزام الاخلاقي شائعاً بين الصيادلة، فمهمة الكثير منهم تجارية بحتة هدفها تحقيق الربح بحيث أصبحت مخالفة القوانين والمدونات الأخلاقية التي تنظم عمل الصيدلاني وحريته في بيع الادوية عملاً طبيعياً يمارسه بعضهم من دون وازع أخلاقي او مانع قانوني وهو ما الحق الضرر بشرف مهنة الصيدلة وبمسؤولية الصيدلي المدنية و الأخلاقية.
كثير من ممارسات الصيادلة تتعارض مع قوانين المهنة والتي يتوجب أساساً الالتزام بتطبيقها، وكثير من الممارسات تبنى على أساس القناعات الشخصية، والاتفاقات مع الأطباء و مذاخر الأدوية و مندوبي شركات الأدوية مما يضعهم تحت طائلة التعارض والتقاطع بين أخلاقيات المهنة وبين المصالح الشخصية.
أصبح حجم تجارة الدواء مخيفاً، ففي العراق أدوية يفوق حجمها وأعدادها ادوية بريطانيا، حيث منافذ تهريب الادوية عديدة، ويقال إن الادوية غير القانونية تشكل أكثر من ٨٠٪‏ من حجم الأدوية المعروضة في السوق. لهذاهناك الكثير من الأسباب التي تستدعي اهتمام المختصين والمسؤولين لوقف التدهور المهني والحفاظ على صحة المواطن وكرامته.

كتب لي احد الاصدقاء الصيادلة حول الممارسات الصيدلانية في العراق والتي يندى لها الجبين "بِدءاً من دخول الأدوية المزيفة، والأدوية غير المسجلة، و غير المفحوصة، وغياب التسعيرة والأرباح الكبيرة، وتسريب الأدوية من المذاخر الى نوافذ البيع اللا مشروعة مثل محلات المضمدين ومساعدي المختبر والصيدليات الوهمية وبسطيات الارصفة، كلها تدمي القلوب، والله وحده يعلم عدد الضحايا الذين يسقطون نتيجة الاستعمال الخاطئ لها إذ لا توجد دراسات أو تقارير أو تسجيل أو متابعات لمثل هذه الامور في وزاره الصحة أو أي جهة أخرى".
ويقارن هذا الصديق الذي يمارس المهنة حالياً في أمريكا، غياب الالتزام بالقوانين والتعليمات الصيدلانية في العراق بتلك القوانين الصارمة في أمريكا والتي "تحد من حرية الصيدلاني حتى من وصف مخفف الآلام بسيط، فقوانين ممارسة المهنة في أمريكا عديدة، هناك قوانين فيدرالية، وهناك قوانين الولاية، وقوانين شركات التأمين الصحي الأهلية، والضمان الصحي الحكومي، ناهيك عن قوانين الشركات المالكة، واللائحة الأخلاقية، ومنها ما هو يقع ضمن صلاحيات المدير المباشر والتي من السهولة والصلاحية أن تؤدي الى فقدان الصيدلاني لوظيفته من غير تردد، وتحت مفهوم حماية المستهلك والتي تجعل من الزبون على حقٍ دائماً (the customer is always right) ".
هل أهملت مهنة الصيدلة في العراق الأسس الانسانية والاخلاقية التي بنيت عليها، وكنتيجة للممارسات الخاطئة لبعض الصيادلة؟ وهل تعاني المهنة من انعدام ثقة المريض والزبون؟ هل أصبح طبيعياً الاتفاق السري بين الطبيب والصيدلاني حول احتكار بيع الأدوية؟ وهل أصبح بيع الادوية من دون وصفة طبية أمراً اعتياديا في العراق؟ ألا توجد مدونات أخلاقية تلزم مساءلة الصيدلاني عن الاخطاء المهنية؟ ولماذا لا يدرس موضوع أخلاق المهنة (Professional ethics)في كليات الصيدلة؟ ولماذا تختلف وتتباين رؤى وأهداف كليات الصيدلة بينما تتماثل مقرراتها الدراسية ووظيفة خريجيها في تقديم الخدمات الصيدلانية وبيع الادوية
قبل أسابيع كنتُ في احدى الصيدليات ابحث عن دواء وصفه لي طبيبي في بريطانيا فاعطتني الصيدلانية دواءً مختلفا في التركيب الكيمياوي والتركيز ويوصف لمرض مختلف، ومع ذلك أصرت إنه مشابه وادعت ان الدواء الذي ابحث عنه لا يوجد في العراق. رفضت هذا الادعاء وذهبت الى صيدلية أخرى لاجد فيها ضالتي من الدواء. هنا طبعا ارتكبت الصيدلانية خطأين هما : انها لم تنبه المريض عن الاختلاف بين الدوائين، وثانياً كذبت بادعاء عدم وجود الدواء في العراق. أمر آخر حصل اثناء وجودي داخل الصيدلية وهو دخول أحد الزبائن وبدأ بالحديث مع الصيدلانية من فوق رأسي (وهي حالة طبيعية في العراق مع الأسف)، طالبا منها دواء لطفله البالغ من العمر 7 اشهر والذي يشكو من تقيؤ وإسهال شديدين لأكثر من يوم، ومن دون تردد اعطته دواء مما أثار حفيظة قريبي الذي رافقني في زيارة الصيدلية قائلا لها ألا يجب على الزبون في هذه الحالة الخطرة كما يبدو لطفله الرضيع أن يراجع طبيباً أو مستشفى؟ فما كانت إلا وزجرت صائحة به: (لعد اني شنو شغلي).

كليات الصيدلة، تعدى عددها الى أكثر من ثلاثين كلية، أغرقت السوق بأكثر من عشرين ألف صيدلاني وأكثر من ثمانية آلاف صيدلية ، ولم يعد من خريجي الدول الغربية من التدريسيين فيها ألا النزر اليسير، ولازال التعليم يتركز حول تخليق الدواء وصرفه كمستحضر من قبل مستحضر مجاز قانونيا! هذا النوع من التعليم لم يجعل من الصيدلاني، وفي غياب القوانين الحديثة والمراقبة المهنية، وفي ظل ضعف السلوك المهني القويم بأكثر من صاحب مخزن يبيع البضاعة لزبائنه، حسب اعتبار أحد الصيادلة المتمرسين. وبينما يشتكي الصيادلة في العراق دوماً من وجود "الدخيل" وهو الممارس من غير مؤهل صيدلاني مجاز، وانه وإن كان حقاً مخالف لقانون ممارسة المهنة أن يمارسها من هو غير مؤهل لها، لكنهم في الوقت ذاته يمارسون مهنه الطب من دون مؤهل وشهادة من خلال تشخيصهم للأمراض وصرفهم الدواء من غير وصفة طبية.
قد يكون إلقاء اللوم على اخفاق نظام سياسي او على ضعف المنظومة الاخلاقية للمجتمع نوع من الانذار المبكر لأهمية وضرورة البدء بالاصلاح مع انه سيغضب بعض الناس الذين لا يحبون توجيه اللوم لهم، مما يمثل عبئاً ثقيلاً لا يتحمله إلا الكبار من اصحاب النفوس الكبيرة ولأنهم وحدهم القادرون على حسن استقباله. لذا اتوجه لهم طالبا انقاذ هذه المهنة السامية من عبث الفاسدين. كما اتوجه لهم ان كانوا في وزارة الصحة، بأن يوقفوا عن الممارسة من يخالف شروط مزاولة المهنة التي نص عليها قانون مزاولة مهنة الصيدلة، وأن كانوا في وزارة التعليم العالي بأن يوقفوا استحداث كليات صيدلة جديدة سواء كانت حكومية او أهلية ، وان كانوا في نقابة الصيادلة بأن يسعوا الى كتابة لائحة اخلاقية لممارسة المهن الصيدلانية في العراق استنادا الى الفصل الخامس من قانون مزاولة مهنة الصيدلة- اداب مهنة الصيدلة، وان كانوا في كليات الصيدلة بأن يسعوا الى ادخال موضوع اخلاقيات المهنة كمقرر كامل في السنة الخامسة وبأن يدرس على صورة دراسة حالات (case studies)، وأن كانوا صيادلة أن يلتزموا بالأسس الاخلاقية لمهنتهم وبأن يضعوا على واجهة محلاتهم الالتزام الاخلاقي التالي:
نلتزم بعدم صرف الادوية من غير وصفة طبية فيما عدا الادوية العامة كمسكنات الآلام، والمواد غير المذكورة في دساتير الادوية وما شابهها.

ليس لنا تعاقد احتكاري مع أي طبيب، ونلتزم بصرف الادوية من أي طبيب مرخص.

لا نبيع الادوية المغشوشة أو غير المسجلة.

الصيدلي هو الوحيد الذي يمكنه من صرف الأدوية.

نحترم الزبون ونقدم النصيحة الطبية حول الدواء.

____________________________________________

مقالات للكاتب لها علاقة بالموضوع:

مرض انفصام الشخصية عند اطباء السوق

http://www.akhbaar.org/home/2015/7/193870.html

فساد القضاء ومسؤولية كليات الحقوق

http://www.akhbaar.org/home/2015/7/195400.html

كاد المعلم ان يكون رسولا

http://www.akhbaar.org/home/2015/7/194493.html

 

عرض مقالات: