في الأسابيع الأخيرة، أثار حكمٌ صادر عن المحكمة الإدارية في هامبورغ جدلاً واسعاً حين اعتبرت أن نظريات كارل ماركس "مناهضة للديمقراطية"، وأن قراءته لا تتوافق مع "النظام الأساسي الديمقراطي الحر" في المانيا. هذا الموقف القضائي، الذي بدا للكثيرين وكأنه استعادة لروح "حظر المهن" في سبعينيات القرن الماضي، دفع عالم الاجتماع أليكس ديميروفيتش إلى الردّ دفاعاً عن ماركس وفكره، مؤكداً أن ما في نظريته من نقدٍ للديمقراطية الليبرالية لا يعني العداء لها، بل السعي إلى تعميقها وتوسيعها.

ماركس والمواطنة السياسية

يرى ديميروفيتش، وهو من أبرز ممثلي النظرية النقدية في المانيا وعالم أجتماع، أن ماركس ـ لو عاش اليوم ـ كان سيشارك في الانتخابات ويصوّت لصالح حزب يساري. فهو، رغم نقده الجذري للنظام الرأسمالي، لم يكن مناهضاً لفكرة المشاركة السياسية بحد ذاتها. "ماركس كان سيدعم القوى التي تسعى إلى التحول الاشتراكي من منظور ديمقراطي"، يقول ديميروفيتش، "لأنه كان يرى في الديمقراطية وسيلة لتكوين إرادة جماعية من أجل التغيير، تهدف إلى حرية الأفراد وتغيير علاقات الملكية."

الحكم القضائي.. والعودة الى الماضي

بالنسبة لديميروفيتش، فإن حكم المحكمة في هامبورغ يمثل انتكاسة فكرية تعود إلى منطق الدولة المحافظة في السبعينيات، حين كانت تُلاحق المؤسسات اليسارية والاشتراكيين بتهمة "الولاء المشكوك فيه للدستور". وهو يرى أن من الغريب أن تُدان جمعية تعليمية مثل "المدرسة الماركسية المسائية" لأنها تُدرّس نصوص ماركس، في وقتٍ يُفترض فيه أن النقاش حول الفكر السياسي والفلسفي جزء من جوهر الحياة الديمقراطية.

ماركس والديمقراطية بمعناها الأوسع

يُذكّر ديميروفيتش بأن الفكر الماركسي ليس نصاً واحداً مغلقاً، بل تقليد فكري غني ومُتعدد القراءات. يستشهد هنا بالفقيه الدستوري فولفغانغ آبندروت، الذي قرأ الدستور الألماني بعد الحرب من منظور ماركسي، دون أن يرفضه. بالعكس، كان يرى أن الدستور يمثل تسوية طبقية تهدف إلى منع عودة الديكتاتورية بعد تجربة فايمار والنازية، لكنه في الوقت نفسه يجب أن يكون نقطة انطلاق لتوسيع الديمقراطية، لا لتجميدها في شكلها البرلماني.

ومن هذا المنظور، لا يرى ديميروفيتش في نقد ماركس للديمقراطية الليبرالية معاداة لها، بل سعياً إلى جعلها أكثر شمولاً وعدالة. فهو يُذكّر بأن الديمقراطية لا ينبغي أن تقتصر على الانتخابات والإجراءات البرلمانية، بل يجب أن تمتد إلى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية: من قرارات الاستثمار والإنتاج إلى المشاركة في توزيع الثروة. بهذا المعنى، يصبح السؤال الماركسي الأساسي: هل تحقق الديمقراطية الرأسمالية فعلاً ما تدّعيه؟ سؤالاً مشروعاً وضرورياً، لا عدائياً.

رأسمالية تزعزع الديمقراطية

يذهب ديميروفيتش أبعد من ذلك، مؤكداً أن الرأسمالية نفسها تشكل خطراً دائماً على الديمقراطية. فمصالح الشركات الكبرى والمستثمرين في الربح السريع باتت هي التي تحدد مسار السياسات العامة. "نحن نعيش اليوم ديكتاتورية الأقلية"، مُكملاً، "تلك الأقلية التي تفرض على الجميع حاضرهم ومستقبلهم بإسم منطق السوق." بالنسبة له، هذا الواقع هو ما كان ماركس سيصفه بأنه شكل حديث من الاستبداد الاقتصادي الذي يقوّض الإرادة الشعبية.

ديكتاتورية البروليتاريا وسوء الفهم

يشير ديميروفيتش إلى أن استناد المحكمة إلى مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" لإدانة فكر ماركس يكشف عن سوء فهم تاريخي. فالمفهوم لم يظهر في "البيان الشيوعي" عام 1848، بل تطوّر لاحقاً بعد تجربة كومونة باريس. أما البيان نفسه، فيدعو إلى أن تصبح الطبقة العاملة "الطبقة الحاكمة"، بمعنى أن الأغلبية التي تنتج الثروة هي التي يجب أن تقرر في الشؤون العامة. هذه ليست دعوة إلى الاستبداد، بل إلى توسيع المشاركة في اتخاذ القرار لتشمل جميع من تتأثر حياتهم بنتائجه.

الملكية والتدخل في الحقوق

أما عن الاتهام بأن ماركس دعا إلى "تدخلات استبدادية في حقوق الملكية"، فيردّ ديميروفيتش بأن التاريخ نفسه يُثبت أن الطبقات المالكة لم تُكوّن ثرواتها بوسائل ديمقراطية. فقد جاءت عبر المصادرة والإستعمار والإستغلال. واليوم، لا تزال هناك تدخلات قسرية ـ كما في تدمير القرى لاستخراج الفحم ـ لكنها تُبرَّر باسم "الصالح العام". وهذا، كما يقول، لا يجعلها أقل استبداداً، بل يستدعي نقاشاً ديمقراطياً حقيقياً حول معنى الملكية والعدالة.

بين الدفاع عن الديمقراطية وتجاوزها

في كتابه الجديد "ماركس كديمقراطي: نهاية السياسة"، الصادر في تموز (يوليو) 2025، يتناول ديميروفيتش المعضلة التي تواجه اليسار اليوم: كيف يمكن الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية القائمة ضد صعود اليمين، وفي الوقت نفسه السعي إلى تجاوزها نحو شكل أعمق من الديمقراطية الاجتماعية؟ فهو يرى أن التمسك بالمكتسبات الديمقراطية واجب، لكن الديمقراطية الحقيقية لا تعني الجمود، بل الاستمرار في توسيع حقوق المشاركة والمساواة.

"إذا رأت الأجيال الجديدة أن النظام الديمقراطي الحالي يمنح الأفضلية للأغنياء بشكلٍ منهجي"، يقول ديميروفيتش، "فمن حقها ـ بل من واجبها ـ أن تسعى لتغييره. فالديمقراطية لا تكتمل إلاّ عندما تُتاح للجميع القدرة على إعادة صياغة قواعدها."

عرض مقالات: