ستنقسم مداخلتي هذه* إلى ثلاثة محاور: في المحور الأول، سأعرض بعض ثوابت المشروع الصهيوني الذي يواجهه شعبنا الفلسطيني كما تبيّنت بوضوح  خلال العامين المنصرمين؛ وسأتناول في المحور الثاني طبيعة المرحلة التي يجتازها الشعب الفلسطيني حالياً؛ بينما سأقترح في  المحور الثالث سبلاَ لمواجهة المشروع الصهيوني.

لم تكن المواقف الإسرائيلية التي سوّغت حرب الإبادة على قطاع غزة، والتي اتخذت أشكالاً أخرى في الضفة الغربية والقدس ومناطق 1948، وليدة ساعتها، ونابعة من نزعة الانتقام على ما جرى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023،  بل كان لها جذور في الفكر الصهيوني وفي أدبيات المعبرين عنه منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهذا ما حاولت أن أزكيه في كتاب لي بعنوان: "في الفكر الصهيوني: الصهيونية وموقفها من العرب الفلسطينيين"، سيصدر قريباً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وتوصلت فيه إلى استخلاص مفاده أن هناك ثوابت في الفكر الصهيوني لم يتغيّر مضمونها عبر تاريخ هذا الفكر وإنما كان يتغيّر التعبير عنها وفقاً للمعطيات السياسية ولموازين القوى السائدة. وسأتوقف عند أربعة من هذه الثوابت.

إن فلسطين هي أرض الشعب اليهودي وحده، وليس للفلسطينيين الحق في تقرير المصير على أرضها، هو أول هذه الثوابت. إذ يجمع المعبرون عن تيارات الصهيونية المختلفة على شرعية قيام الدولة اليهودية في فلسطين على حساب شعبها العربي؛ وإذا كان البعض  يربط هذه الشرعية بالحق التاريخي، أو بالوعد الإلهي، أو بالعمل على تطوير الأرض المقفرة والمتروكة، فإنه ظهر تيار أقلوي ربط هذه الشرعية بالمحنة التي حلت باليهود جراء المحرقة النازية، معتبراً أن ليس للفعل الصهيوني سوى "تبرير موضوعي واحد" هو  إنقاذ اليهود من المحرقة النازية؛ من الصحيح أن الصهيونية ارتبطت بإجحاف بحق سكان فلسطين العرب، كما يعترف أنصار هذا التيار، إلا أن هذا الإجحاف كان، في نظرهم، شرطاً ضرورياً لإقامة دولة لليهود الملاحقين. وفي نظر عدد كبير من المعبرين عن الصهيونية، فإن حرب سنة 1967  أفضت إلى تحرير "أرض إسرائيل" بكاملها، وأن القدس بصفتها "مدينة داود"، يجب استمرار السيطرة عليها وتجميع الشروط التي تسمح بإعادة بناء "الهيكل" في موقع قبة الصخرة والمسجد الأقصى.

الثابت الثاني من ثوابت الصهيونية، كما تبدى بجلاء منذ اندلاع هذه الحرب، هو تهجير السكان الفلسطينيين برضاهم، أو بالقوة إذا اضطر الأمر، بحيث أصبحت لغة التهجير ليس من قطاع غزة فحسب وإنما من فلسطين التاريخية سائدة، بصورة صارخة، في الخطاب السياسي الصهيوني، وإليكم بعض الأمثلة على ذلك. فخلال انعقاد مؤتمر "التحضير للاستيطان" في بلدة سيديروت المحاذية تقريباً لحدود قطاغ غزة، في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2024، الذي شارك فيه عدد كبير من الوزراء والنواب من أربعة أحزاب صهيونية ضمن الائتلاف الحاكم، دعت ماي غولان، وزيرة المساواة الاجتماعية عن حزب الليكود، "إلى طرد الفلسطينيين من منازلهم عقاباً لهم على أحداث 7 أكتوبر"، بينما أكد وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير "أن تشجيع هجرة الفلسطينيين من قطاع غزة هو الحل الأفضل والأكثر أخلاقية للصراع"؛ ولدى شرحه الخطة التي أقرتها حكومة بنيامين نتنياهو، في 19 كانون الثاني/يناير 2025، بغية "تكثيف العمليات الهجومية" في الضفة الغربية، وإطلاق العنان لعصابات المستوطنين، أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، في 10 شباط/ فبراير 2025، أمام الكاميرات ما يلي: "يجب أن يعلم السكان العرب في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) أنه إذا استمروا في دعم الإرهاب، فسيكون مصيرهم مماثلاً لمصير سكان غزة، بحيث تتحول طولكرم وجنين إلى جباليا والشجاعية، وتتحول نابلس ورام الله إلى رفح وخان يونس، أي إلى أكوام من الأنقاض، بما يجعل العيش مستحيلاً فيها، ويُجبر سكانها على الرحيل والبحث عن ملاذات في بلدان أخرى". وقد تحوّل مخيما طولكرم وجنين بالفعل إلى جباليا والشجاعية وهُجّر سكانهما. أما في مناطق 1948، فقد ذهب قائد الشرطة الإسرائيلية كوبي شبتاي، بعد مظاهرة غير مرخصة دعماً لسكان قطاع غزة، إلى حد تهديد المواطنين الفلسطينيين بـ "توفير حافلات لهم إذا أرادوا الرحيل إلى غزة".

وتاريخياً، تمّ تسويغ فكرة التهجير"أخلاقياً" بالزعم أن الفلسطينيين لم يكونوا شعباً ذا حقوق وطنية في فلسطين، بل مجرد عرب يمكنهم أن يقطنوا في أي بقعة من الأرض العربية الواسعة، وأن انتزاع ملكية أرض من شعب يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي خارج فلسطين لإقامة دولة لشعب يهوم على وجهه في العالم هو فعل "عدالة". وقد استغلت الصهيونية حرب 1948 للقيام بتهجير معظم العرب الفلسطينيين، كما حاولت استغلال هذه الحرب لتهجير سكان قطاع غزة.

وتجلت نزعة التفوق العرقي لليهود ليس في نزع إنسانية الفلسطينيين فحسب بل كذلك في عدم الاكتراث بمصيرهم، وخصوصاً في قطاع غزة، إذ بيّن استطلاع أجراه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، في حزيران/يونيو 2025، أن 76،5% من الإسرائيليين لا يرون ضرورة أخذ معاناة الفلسطينيين في الحسبان "لدى تخطيط  مواصلة العمليات العسكرية" في قطاع غزة"، واكتفت المظاهرات الاحتجاجية على سياسة حكومة بنيامين نتنياهو  بالمطالبة بتحرير المحتجزين الإسرائيليين، بينما ظلت الإبادة الجماعية والكارثة الإنسانية التي لحقت بالفلسطينيين في القطاع غائبتين عن مواقف المشاركين في هذه المظاهرات. والواقع أن نزعة التفوق العرقي هي تاريخياً من ثوابت الصهيونية، ذلك إنه باستثناء قلة من الذين جذبهم الشرق، أرجع معظم الصهيونيين تفوق الشعب اليهودي على المستوى الحضاري إلى كونه يشكّل جزءاً لا يتجزأ من الغرب وحضارته، وهو ما يجد تعبيره، كما كتب فلاديمير جابوتنسكي، في واقع "أن أوروبا هي، من وجهة نظر معنوية،  لليهود كما هي للإنكليز والإيطاليين والألمان والفرنسيين، ذلك إن آلاف اليهود قدموا مساهمتهم في جميع البلدان الأوروبية، في العلم، والفلسفة، والفنون، والتقنيات، والسياسة والثورة، ويتوجب عليهم أن يحملوا "أنوار" أوروبا إلى الشعوب غير المجربة بعد"، وهي أطروحة يرددها بنيامين نتنياهو في معظم خطاباته الموجهة إلى العالم عندما يزعم أن إسرائيل تخوض "معركة الغرب" وتدافع عن "الحضارة في مواجهة البربرية".

أما الثابت الرابع من ثوابت الصهيونية، فهي فكرة "السلام عبر القوة"، إذ يقدّر الصهيونيون أن السلام الوحيد الممكن هو "سلام الردع"، وأن اللجوء إلى القوة هو وحده الذي يضمن تحقيق المشروع الصهيوني وتواصله، ذلك إن إسرائيل قوية هي فقط القادرة على التوصل إلى تسويات "سلام" حقيقية مع العرب. ويتجسد هذا السلام بالنسبة إلى سكان "الأراضي المحررة"، بعد سنة 1967، في حكم ذاتي خاضع للسيادة الإسرائيلية، بينما يتجسد بالنسبة إلى الفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل في "الحقوق" التي ضمنها لهم قانون أساس "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي"، الذي غابت عنه كلمتا "ديمقراطية" و"مساواة". وفي السنوات الأخيرة، راحت تتعزز مواقع تيار يرى أن القضية الفلسطينية هي قضية أفراد يمكن أن يختاروا ما بين الاعتراف بالصهيونية، والتمتع حينئذٍ بالحقوق المدنية في دولة إسرائيل، أو الخضوع لدولة إسرائيل من دون الاعتراف بالصهيونية والتمتع بحقوق المقيمين الأجانب من دون حقوق سياسية، أو الحصول على تعويضات والهجرة إلى البلدان العربية المجاورة.

ما أريد استخلاصه في النهاية هو أن الحرب الإسرائيلية، المتعددة الأشكال، على الشعب الفلسطيني أبرزت الطابع الحقيقي للصهيونية، التي تنضوي تحت لوائها مختلف التيارات السياسية في إسرائيل باستثناء التيار الشيوعي، بصفتها مشروعاً استعمارياً استيطانياً إحلالياً، ينطوي على نزعة عدوانية وتوسعية، من جهة، وعلى نزعة تفوّق عرقي، من جهة ثانية. كما أبرز الإجماع الصهيوني حول هذه الحرب أنه قد يكون من الصعب أن يولد، في ظل المعطيات السياسة القائمة حالياً، بديل لحكومة بنيامين نتنياهو من معسكر ما يسمى بـ "يسار الوسط"، وأنه قد لا يوجد في الواقع معارضة "ديمقراطية" أو "ليبرالية" حقيقية، طالما انضوت تحت لواء الصهيونية.

وبالانتقال إلى المحور الثاني المتعلق بطبيعة المرحلة التي يجتازها الشعب الفلسطيني حالياً، أشير إلى أنه  صدرت في الشهور الماضية أبحاث تحذر من أن الحركة الوطنية الفلسطينية  تمر "في طور احتضار"، لكونها في وضع "لا يخوّلها "تقديم استجابة فاعلة للتحديات المتعاظمة" التي تواجهها، أو تطرح احتمال "اندثار المشروع الوطني الفلسطيني"، في ظل "تكالب عوامل خارجية سلبية وفقدان الفلسطينيين لأي مصدر إسناد خارجي فاعل، وانكشافهم أمام تحدي إمكان فرض تسوية "حدّ أدنى" عليهم، تؤدي إلى تصفية قضيتهم".

والواقع، أن النظرة التشاؤمية التي تطغى على هذه الأبحاث، لدى تقديرها عجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن مواجهة التحديات المتعاظمة، قد تكون مبررة، في ضوء المعطيات السياسية الواقعية القائمة؛ مع ذلك، يبقى السؤال: هل يمكن فعلاً أن تموت الحركة الوطنية الفلسطينية وأن يندثر المشروع الوطني الفلسطيني؟

بالرجوع إلى التاريخ، أجتهد في الإجابة بالسلب عن هذا السؤال، منطلقاً من حقيقة أن نضال الشعب الفلسطيني سيتواصل طالما ظل هذا الشعب محروماً من حقوقه الوطنية، وأن هذا النضال ستعبّر عنه حركة وطنية، بعض النظر عن التعبيرات السياسية التي تجسدها في كل مرحلة من المراحل التاريخية. أما المشروع الوطني فهو لا يمكن أن يندثر، وإنما يتغيّر، مع تبدّل المعطيات السياسية وموازين القوى، الهدف الذي ينطوي عليه. وليس صدفة أن يشبه الشعب الفلسطيني بطائر العنقاء الذي ينهض دوماً من تحت الرماد.

من الصحيح أن تعبيرات الحركة الوطنية الفلسطينية السياسية في عهد الانتداب البريطاني، التي هدفت إلى الحفاظ على عروبة فلسطين وضمان استقلالها، قد اختفت بعد النكبة، لكن النضال الفلسطيني من أجل التحرير والعودة تواصل من خلال انخراط المناضلين الفلسطينيين في حركات فوق وطنية، ورهان معظمهم على أن الوحدة العربية ستكون الطريق إلى تحرير فلسطين، وذلك إلى أن سمحت معطيات سياسية وموازين قوى جديدة، وخصوصاً بعد الهزيمة العربية في حزيران/يونيو 1967، في بروز حركة وطنية فلسطينية مستقلة استمرت في النضال من أجل التحرير والعودة، قبل أن تنتقل إلى النضال من أجل الاستقلال على قاعدة تقسيم فلسطين.

وكنت، قبل خمسة أعوام، قد شاركت في مؤتمر "المشروع الوطني الفلسطيني: إعادة بناء أم تجديد؟"، الذي عقدته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بالشراكة مع "معهد مواطن للدديمقراطية وحقوق الإنسان" في جامعة بير زيت، ما بين 23 و 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020،  وقدمت فيه ورقة بعنوان "الحركة الوطنية الفلسطينية من مشروع التحرير إلى مشروع الاستقلال إلى مشروع ...؟"، أشرت فيها إلى أنه "منذ أن بدا أن المشروع الوطني الفلسطيني المرتكز إلى الاستقلال على قاعدة تقسيم فلسطين وصل إلى طريق مسدود، عاد سؤال المشروع الوطني الفلسطيني ليشغل بال عدد من المثقفين والسياسيين الفلسطينيين الذين توزعوا على تيارين: الأول، قدّر أن مشروع الاستقلال القائم على قاعدة التقسيم لا يمكن التخلي عنه، وأن الخروج من المأزق الذي تجابهه الحركة الوطنية الفلسطينية يتطلب العمل على تغيير موازين القوى؛ بينما راح الثاني يتصوّر، من منطلقات متعددة، مرتكزات جديدة لمشروع وطني فلسطيني بديل". وكما يلاحظ في عنوان تلك المداخلة، كنت قد تركت الجواب مفتوحاً عن سؤال إلى أين سينتقل المشروع الوطني بعد هدف التحرير وهدف الاستقلال، لكن اليوم  قد يكون في وسعي الاجتهاد في الإجابة عن ذلك السؤال، في ضوء المعطيات السياسية وموازين القوى الحالية، بالقول إن المرحلة الكفاحية التي يمر بها الشعب الفلسطيني اليوم هي مرحلة دفاع استراتيجي عن النفس، تفترض الانتقال من التركيز على طبيعة الكيان الفلسطيني المنشود: دولة فلسطينية مستقلة أو دولة واحدة ثنائية القومية أو لكل مواطنيها إلى التركيز على الشعب الفلسطيني ومستقبله، بحيث يصبح هدف المشروع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة هو الصمود على أرض الوطن وتوفير مقوماته. فالصهيونية لن تحقق نصرها النهائي إلا عندما تنجح في إفراغ فلسطين التاريخية من سكانها العرب أو من القسم الأعظم منهم.

وأنتقل أخيراً إلى المحور الثالث المتعلق بسبل المواجهة، فأقول إن مرحلة الدفاع الاستراتيجي عن النفس تفترض، ربما أكثر من أي مرحلة كفاحية مرّ بها الشعب الفلسطيني في الماضي، أن ينسجم شكل النضال مع  هدف النضال؛ فإذا كان الهدف هو ضمان صمود الفلسطينيين والفلسطينيات فوق أرض وطنهم وتوفير مقوماته، بغية إحباط المخططات الصهيونية الرامية إلى تهجيرهم، فإن الشكل الكفاحي الأكثر تجاوباً مع هذا الهدف هو شكل المقاومة الشعبية غير المسلحة. وإذ سيكون من الصعب استنساخ  تجارب المقاومة الشعبية التي برزت خلال الانتفاضة الأولى، فإن الانتفاضة الثانية، والسنوات التي أعقبتها، شهدت تجارب في المقاومة الشعبية غير المسلحة يمكن الاستفادة منها.

فخلال تلك الانتفاضة الثانية، نظمت في شمال الضفة الغربية احتجاجات ضد بناء جدار الفصل العنصري وضد الاستيطان ومن أجل دعم صمود المجتمعات المحلية، وانتشرت هذه الاحتجاجات في جميع أنحاء الضفة الغربية بطرق جديدة بين سنتَي 2005 و2011 من خلال إنشاء اللجان الشعبية في القرى، وخصوصاً في تلك التي تقع ضمن المنطقتين الخاضعتين للسيطرة الإسرائيلية (ب) و(ج)، وتشكّلت "لجنة تنسيق المقاومة الشعبية" التي اضطلعت بدور مهم في بناء الشبكات وتنظيم فاعليات الاحتجاج. وساعد اشتراك الناشطين الدوليين في تلك النشاطات الاحتجاجية في خفض مستوى القمع العسكري الإسرائيلي، وساهم في تأمين الأموال اللازمة لتمويل أنشطة المقاومة. وتمّ ابتداع أشكال مقاومة متميزة، كما حصل في تجربة مخيم "باب الشمس" في كانون الثاني/يناير 2013، وفي حملات "فزعة" لقطاف الزيتون، وفي حركة الاحتجاج الواسعة، في أيار/مايو 2021، لحماية الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية المحتلة المهدددن بالطرد.

لقد أخفقت إلى الآن جميع محاولات إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية التي جرت من فوق، أي من خلال الحوارات بين ممثلي الفصائل الفلسطينية المختلفة، وذلك جراء خلاف الفصيلين الرئيسيين على ثلاث مسائل: التنافس على السلطة، الموقف من شكل المقاومة والموقف من قرارات الشرعية الدولية. ويبدو لي أن التطورات الأخيرة، بما فيها رد حركة "حماس" على ما سمي بخطة ترامب للسلام، يمكن أن تمهد الطريق أمام تجاوز هذا الخلاف، والتفاف الجميع حول منظمة التحرير الفلسطينية لمواجهة التحديات الكبيرة التي تطرحها هذه الخطة، وما يمكن أن تعدّه الحكومة الإسرائيلية من مخططات لمواصلة حربها بأشكال جديدة، على أن يقرر الشعب الفلسطيني في المستقبل، عبر الانتخابات التمثيلية، طبيعة نظامه السياسي ومستقبله. ويمكن الرهان على أن العمل في ميدان تعزيز المقاومة الشعبية وتأطيرها وتنظيمها في وسعه أن يوفر فرصة تسمح بنفخ روح جديدة في الحركة الوطنية الفلسطينية، بحيث يؤدي انخراط فصائل هذه الحركة في هذه المقاومة ومبادراتها إلى تشكيل اللجان الشعبية إلى إخراجها من حالة الترهل، ودفعها إلى تجديد هياكلها وتوسيع قاعدتها الشعبية.

أما سبيل المواجهة الثانية، الذي يضمن الحفاظ على الهوية الوطنية، فيتمثّل في استمرار العمل على دحض الرواية الصهيونية، من جهة، والتمسك الحازم بالسردية الفلسطينية للصراع وإشاعتها على نطاق واسع، من جهة ثانية، وخصوصاً بعد أن تبيّن أن من شروط إصلاح السلطة الفلسطينية في نظر إسرائيل والقوى الغربية هو التخلي عن هذه السردية، التي تقول إن فلسطين التاريخية هي وطن الشعب الفلسطيني، وإن نضال هذا الشعب للحفاظ على عروبة وطنه بدأ منذ مطلع القرن العشرين مع وصول الموجة الثانية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي أبرزت الطابع العنصري للصهيونية من خلال الشعارين اللذين رفعهما أفرادها وهما "احتلال الأرض" و"احتلال العمل"، وإن القضية الفلسطينية لا تختزل إلى قضية احتلال جرى في سنة 1967، وإنما هي قضية شعب تم القضاء على كيانه الوطني وتشريده في سنة 1948، وبات من حقه أن يناضل من أجل تقرير مصيره على أرض وطنه وضمان حق لاجئيه في العودة إليه.

 وبينما يؤكد حكام إسرائيل أن إصلاح السلطة الفلسطينية يقتضي كذلك التوقف عن تقديم إسرائيل ومسؤوليها إلى المحاكم الدولية، يتمثّل السبيل الثالث للمواجهة، في اجتهادي، في استمرار العمل على تدويل القضية الفلسطينية؛ وفي مواجهة المحاولات الأميركية لفك العزلة الدولية عن إسرائيل، يجب العمل على تعزيز المكاسب التي تحققت على طريق تدويل هذه القضية والتي تمثّلت، بصورة خاصة، في الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية المعلنة، ذلك إن هذه الاعترافات التي شملت مؤخراً ثلاثة  أعضاء في مجموعة الدول السبع، هي فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، وصارت تشمل أربع دول من أصل خمس من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، يمكن أن  تضغط على الولايات المتحدة، على أن يؤخذ في الاعتبار أن هذه الاعترافات تنطوي على دلالة رمزية ولن يكون لها تأثير فعلي ما لم تترافق مع عقوبات جدية تفرض على إسرائيل. من ناحية أخرى، إذا كانت حرب الإبادة الإسرائيلية قد سلطت الضوء على  الوجه الحقيقي للصهيونية، فإنها، في المقابل، أبرزت، أكثر من أي وقت مضى، الطبيعة الإنسانية للقضية الفلسطينية وعدالتها، الأمر الذي يفسر هذا التضامن الشعبي الذي لا سابق له مع الفلسطينيين ونضالهم على صعيد العالم، والذي تجاوز، في الأشهر الأخيرة، فئة الطلاب والشباب ليشمل فئات اجتماعية واسعة في العديد من دول العالم، ذلك إن هذا التضامن الذي فرض على حكومات عديدة الاعتراف بدولة فلسطين، يمكنه في حال اتساعه أن يفرض على هذه الحكومات فرض عقوبات على إسرائيل، كما حدث في تجربة جنوب أفريقيا، حيث اضطلع التضامن الشعبي مع نضال المؤتمر الوطني الأفريقي بدور بارز في إحداث تحوّل عميق داخل صفوف الأقلية البيضاء السائدة، بما مهّد الطريق أمام إنهاء نظام الفصل العنصري. ومن المرجح أن يفضي فرض هذه العقوبات الدولية على إسرائيل، مع تصاعد المقاومة الشعبية لمخططات حكامها العدوانية والتوسعية، إلى إحداث مثل هذا التحوّل العميق داخل المجتمع الإسرائيلي، بما يقنع أغلبية من الإسرائيليين، مع الوقت، بأن الإقرار بحق الشعب الفلسطيني بمجموعه في تقرير مصيره على أرض وطنه هو شرط السلام الحقيقي الذي يضمن لجميع من يقيم على أرض فلسطين التاريخية العيش بكرامة والتمتع بحقوق متساوية.

* ألقيت هذه الماخلة في اليوم الثاني للمؤتمر السنوي الذي عقدته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان: "فلسطين أمام منعطف تاريخي. قراءات في واقع جديد"، جامعة بير زيت، 9 تشرين الأول/أكتوبر 2025.

المراجع

إبراهيم أبراش. "هل انتهى المشروع الوطني الفلسطيني التحرري؟". "أمد للإعلام"، 8 أيار/مايو 2025.

https://www.amad.info/ar/post/554110/هل-انتهى-المشروع-الوطني-الفلسطيني-التحرري

جميل هلال. "تحديات الثقافة الفلسطينية"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 109، شتاء 2017، ص 20-26.

علي الجرباوي. "الفلسطينيون أمام مفترق طرق". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 142، رببيع 2025، ص 111-119.

مصطفى البرغوثي. "المشروع الوطني الفلسطيني بعد العدوان"، "عروبة 22"، 22 شباط/فبراير 2024؟

https://ourouba22.com/article/2078-المشروع-الوطني-الفلسطيني-بعد-العدوان

يزيد صايغ. "ضرورة إعادة تصوّر النضال الفلسطيني، "ديوان"،  13 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

Antoine Garrault. “De la défense des terres à la sauvegarde d’un territoire. Construire un espace de mouvement social en Cisjordanie occupée”, “Les Cahiers d Outre-Mer”, 284 , Juillet-Décembre 2021, p. 295-328

https://journals.openedition.org/com/13160

Ezra Nahmad. “Israël. Ce pacte de violence qui soude la société”, “Orient xxi”, 7 août 2025. 

https://orientxxi.info/magazine/israel-ce-pacte-de-violence-qui-soude-la-societe,8417

 Nitzan Perelman Becker. “L’illusion d’une opposition démocratique en Israël”, “Orient xxi”, 27 août 2025


https://orientxxi.info/magazine/l-illusion-d-une-opposition-democratique-en-israel,8454
 
عرض مقالات: