تتواصل أزمة تلوث الهواء في أجواء العراق،وخاصة في العاصمة بغداد وأطرافها، بالملوثات الغازية السامة والضارة، في ظل عجز الحكومة عن معالجتها وحتى عن التخفيف من وطأتها على المواطنين.
قبل نحو ‘سبوعين عاش المواطنون في بغداد والأطراف المحيطة بها فترة هدوء قصيرة، خالية نسبياً من الملوثات والروائح الكريهة. يعود الفضل فيها للأمطار التي هطلت ونظفت الأجواء من الملوثات العالقة..
بيد ان فترة الهدوء لم تدم طويلآ.

  فبينما كان العراقيون ينتظرون على مضض، مع أمل لدى البعض منهم، أن تنفذ الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة، وعد رئيس الحكومة السيد السوداني، الذي أطلقه في 15/10/2024 ، بـ " إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد ".. فجأة شهدت سماء العاصمة ليلة وفجر ونهار يوم الأحد الماضي، من جديد، سحابة دخان كثيف خانق، وروائح كبريتية كريهة، بلون اختناقها الأصفر، دخل المستشفيات على أثرها نحو 200.مواطن، أغلبهم من مرضى الربو وعجز القلب.

   وشكلت عودة الدخان الخانق قلقاً واسعاً بين المواطنين من تفاقم التلوث بالغازات السامة، ضاعفت من تصاعد مخاوفهم من تأثيراتها الصحية عليهم وعلى أطفالهم..وقد رصدت " شفق نيوز"، في فبديو لها ،في 17/11/2024،غيوم الكبريت التي غزت سماء بغداد ولوثت أجوائها، معلقة بان هذه الغيوم: " ما تزال تعاند قرارات وإجراءات الحكومة العراقية، وتعود مرة أخرى لتطلي صباح العاصمة ومسائها بلونها الأصفر ورائحتها الكبريتية الخانقة ". وجالت كاميرا الوكالة، محلقة في سماء بغداد، توثق انتشار الدخان الأصفر الذي يتسبب بالكثير من حالات الاختناق والأعراض المرضية الأخرى عند أهالي العاصمة ،الذين ينتظرون حلاً حكومياً جدياً، أو أن تحن عليهم السماء ببعض المطر ليغسل الهواء الملوث"..

 والمعروف ان أجواء العاصمة بغداد وأطرافها تُعاني منذ أشهر من انتشار رائحة الكبريت، إلا أنها إزدادت بشكل ملحوظ خلال الشهرين الأخيرين، مما أثار شكاوى السكان مجدداً من تأثيره على جودة الهواء وعلى صحتهم وحياتهم، مصعدين من مطالباتهم المتكررة للجهات الحكومية، بالتدخل العاجل لإيجاد حلول جدية تحدُ من الانبعاثات الملوثة وتحسن جودة الهواء.

 وقد كشف "المؤشر العالمي لجودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78%-كما أسلفنا في حلقة سابقة

وأشار الخبير في الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي في العراق صادق عطية، إلى تسجيل "ارتفاع كبير وخطير" في مستويات التلوث بالعراق، وقال في منشور عبر حسابه بفيسبوك في 18/10/2024،، إن "خارطة مستويات التلوث AQI في العراق، ومنها العاصمة بغداد، تشير إلى قيم عالية تتجاوز 150-225 مليغرام/ متر مكعب "

    وقبل ذلك بيومين، نشرت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وقد بلغ 203 ، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية "  Independent" )عربية"،26/10/ 2024).

 والطامة، أن يخرج المتحدث باسم وزارة البيئة على المواطنين الذين يعانون منذ شهرين وأكثر من الهواء الملوث باوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى والروائح الكريهة، المخيمة كثيفا على بغداد، وتلحق الضرر بصحتهم وتهدد حياتهم، زاعماً: "لا داعي للقلق"! وان " الوزارة تراقب الوضع عن كثب".
   ولم يوضح سيادته ما فائدة " المراقبة عن كثب" للمواطنين، خاصة الذين يعانون من مشاكل صحية، وأدى التلوث الى تفاقم حالتهم، والأطباء يواصلون تحذيراتهم من ان السحابة الكبريتية تزيد من خطر التعرض للسكتة الدماغية ، وامراض القلب، والربو القصبي، وسرطان الرئة، وحتى الوفاة المبكرة.

 وبما ان حبل الكذب قصير-كما يقول المثل الشائع، فقد ردت لجنة الصحة والبيئة البرلمانية، في الأثناء، على مزاعم وزارة البيئة بـ"مراقبتها عن كثب"، وهو رد يُعتبر بمثابة تكذيب لها، بكشفها بان محطات الوزارة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة، وان تأهيلها يتطلب 2,5 مليار دينار،بينما ميزانية الوزارة للعام الحالي لا تصل الى مليار واحد" ("المدى"،18 /11/2024)..

    ولم ترد وزارة البيئة على اللجنة البرلمانية لحد اليوم.. وسكوتها يعني انها كانت تضلل المواطنين ولا تقول الحقيقة، وبالتالي فهي لا تبالي بالمخاطر الصحية لتلوث الهواء على المواطنين.وبذلك فهي لا تلتزم بواجباتها تومسؤولياتها جاههم وتجاه المجتمع العراقي برمته.

 والمفارقة الأخرى،هي ان وزارة البيئة كانت قد حددت في 13/10/2024، أماكن بؤر التلوث في العاصمة، وأكدت أنها تتمثل بمحطات توليد الطاقة الكهرباء التي تستخدم الوقود الثقيل ( النفط الأسود)، مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالاضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطامر غير الصحية، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي، بالإضافة الى الحرق العشوائي، خاصة أثناء الليل, وكذلك كور الصهر غير القانونية التي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة” (المصدر السابق).

 وقد حملَّ رئيس الحكومة السيد السوداني، في 15/10/2024، المسؤولية على الممارسات الحكومية الخاطئة في التعامل مع التلوث البيئي، وكشف عن إتخاذ إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد. ووجه، بتشكيل لجنة متخصصة لدراسة حالة التلوث وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة، وبيان أسبابها ومعالجتها، مشدداً على ضرورة وضع حلول جذرية للمشكلة، ودراسة الأمر من جميع جوانبه، بحيث تُقدم اللجنة تقريرها الخاص بالموضوع خلال يومين (" الشرق. نت"، 18/10/ 2024..,

 هنا لابد من ملاحظة.. السيد رئيس مجلس الوزراء مهندس زراعي قديم، وكان إدارياً ناجحاً في وظائفه السابقة- كما وُصِفَ.. فهل من المعقول ان يطلب سيادته تحقيق جملة قضايا مهمة جداً ( تشكيل لجنة من ذوي الكفاءة والخبرة، وتجتمع اللجنة، وتقترح معالجات مدروسة وفاعلة وقابلة للتطبيق) خلال يومين فقط ؟ّ!!.

    بصراحة يا حضرة رئيس الحكومة ،نقولها، مع تقديرنا لحرصك وطموحاتك الخدمية، أنك أوقعت نفسك بنفسك، مرة أخرى، في مطب التخبط والعشوائية وسوء الإدارة، الى جانب التهكمات..

 ثم، ان هذا الحدث وما رافقه من تلكؤ وتقصير ولاأبالية، أليست كافية لمحاسبة المسؤولين المتنفذين المقصرين الذين أوصلوا البيئة العراقية الى هذه الحال ؟

    أم ان القيود  المفروضة عليك تمنعك من القيام بذلك ؟.

 وبالعودة الى ما ذكرناه في المقدمة بان المواطنين ينتظرون على مضض تنفيذ الوعود، لأنهم شبعوا حد التخمة منها ومن تشكيل اللجان، معتبرين "تشكيل لجنة" يعني موت القضية المطروحة، وستكون في خبر كان، ذلك لأنه تم طيلة العقدين المنصرمين.تشكيل مئات اللجان،ولم تعُلن نتائج ولا لجنة واحدة رغم مرور أعوام، أو على الأقل أشهر عديدة،على تشكيلها.. ولم يسأل أحد من المسؤولين أو الجهات المعنية عنها..

وبشأن اللجنة التي أمر رئيس الحكومة بتشكيلها، فلا نعلم هل تشكلت فعلآ وضمن مواصفات المهنية والكفاءة العلمية والخبرة الإدارية.. وإذا تشكلت، فهل قدمت ،في هذا الوقت القصير جداً،معالجاتها الجادة والفاعلة للمشكلة المطروحة ؟ وهل المعالجات التي قدمتها مدروسة وقابلة للتنفيذ ؟

حبذا لو تنشر مقترحات اللجنة ليساهم الخبراء البيئيون من خارج وزارة البيئة، في العراق وخارجه، في إغنائها..

 وبالرجوع لما شهدته أجواء بغداد من عودة جديدة للدخان الكثيف والخانق والروائح الكريهة، ما يزال المسؤولون المعنيون يتحدثون ويبحثون عن الأسباب،بينما المواطنون ينتظرون من فترة طويلة وضع حد عاحل لهذا النوع من التلوث الذي أضر بصحتهم كثيرا.

    أما ما.أما متى يشرعون بالعمل لمعالجة المشكلة جذرياً.. فعيش وشوف!!!

   في يوم الاحد 17/11/2024 تحدثت لجنة الصحة والبيئة النيابية عن أسباب عودة الدخان الكثيف والروائح الكريهة. وقال عضو اللجنة، النائب باسم الغرابي ان "أحد أبرز أسباب انتشار الروائح الغريبة الشبيهة بالكبريت، هو حرق النفايات، ومخلفاتها غير المسيطر عليه ".

    وأضاف " أن الحكومة شرعت بحملة من قوى الامن وبالتالي أوقفت الحرق نوعا ما، واختفت السحب الدخانية"، مستدركا "عندما توقفت الحملة الحكومية عادت الناس تحرق في نفس الأماكن".

     ومن الاسباب الاخرى، وفق الغرابي، هو "انتشار معامل الطابوق ومعامل الاسفلت قرب المناطق السكنية، واستخدام النفط الاسود واستخدام مولدات كهرباء تعمل بالنفط الثقيل او الوقود الثقيل والنفط الاسود، فضلا عن تأثيرات المصافي، مثل الدورة ومخلفاته، التي تنبعث منها نتيجة التكرير، ومكانات الصهر الموجودة في داخل الاحياء غير مسيطر عليها" ("المدى"،18/11/2024)..

   لم توضح اللجنة البرلمانية المتخصصة ما الجديد فيما أعلنته، وهو معروف للقاصي والداني.وقد شخصت مصادر بيئية عديدة ان السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة يعود إلى استمرار بعض المعامل الصناعية في استخدام الوقود الثقيل، المعروف بتسببه في انبعاثات ملوثة عالية، على الرغم من الدعوات السابقة لإغلاق هذه المنشآت أو التحول إلى بدائل طاقة أنظف.

   وثمة مصادر كانت أكثر جرأة من غيرها، عندما قالت بأنه رغم الجهود الحكومية المعلنة لمكافحة التلوث البيئي، إلا أن العديد من تلك المعامل لم تخضع للإجراءات العقابية أو الإغلاقات المطلوبة، مما يعكس وجود فجوة في تطبيق القوانين البيئية. ويأتي ذلك في وقت تتزايد فيه شكاوى المواطنين من تردي نوعية الهواء، حيث تتسبب الانبعاثات السامة في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية، لا سيما بين الأطفال وكبار السن.وإن غياب الرقابة الصارمة واستمرار السماح باستخدام الوقود الثقيل يشكلان عقبة رئيسية أمام تحسين جودة الهواء في بغداد. وطالب ناشطون بيئيون باتخاذ إجراءات حازمة تشمل إغلاق المعامل المخالفة وتحفيز الانتقال إلى مصادر طاقة مستدامة.

   وأكد المختص البيئي، مرتضى حاتم بإن "استمرار استخدام الوقود الثقيل في المعامل الصناعية دون اتخاذ حلول جذرية يشكل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة في بغداد، حيث أشار إلى أن الانبعاثات الناتجة عن حرق هذا النوع من الوقود تحتوي على جسيمات دقيقة ومواد سامة ترتبط مباشرة بزيادة معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب، إضافة إلى مضاعفات خطيرة على الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن".

   ونبه حاتم الى أن "تراكم الملوثات في الهواء لا يقتصر تأثيره على الصحة الفردية، بل يمتد ليؤثر على النظام الصحي العام من خلال ارتفاع حالات الاستشفاء والتكاليف الطبية".وتابع أن "الأزمة لن تُحل بإجراءات شكلية، داعيًا الجهات المعنية إلى تبني سياسات صارمة تشمل إغلاق المصانع المخالفة، ودعم التحول إلى بدائل طاقة نظيفة تقلل من آثار التلوث على البيئة وسكان العاصمة" ("المدى"،17/11/2024)

ثم، ان وزارة البيئة ذاتها أعلنت بأن “عودة الروائح وارتفاع تراكيز الملوثات في سماء بغداد سببها إصرار بعض الأنشطة الصناعية والبلدية المخالفة على مزاولة عملها في ساعات الليل”، مبينة أن “إدارتها العليا وفرقها الرقابية تعمل ميدانيا على مدار الساعة على متابعة مصادر تلوث الهواء في بغداد”.

    وقال الوكيل الفني لوزارة البيئة د.جاسم الفلاحي، إنه "رغم ان الحالة الطقسية تسهم في وضوح تلك الروائح الا ان هنالك مشكلة كبيرة في إصرار عدد من الأنشطة الصناعية وغيرها بعدم الامتثال لقرارات الغلق واعتماد وسائل حرق مخالفة لأبسط المحددات البيئة".وأشار إلى أن "تقارير مديرية بيئة بغداد الموثقة استعرضت ابرز أسباب تفاقم التلوث يعود إلى استمرار الحرق السلبي في معامل الطابوق وكور الصهر غير القانونية والأسفلت في النهروان وبعض مناطق بغداد إضافة إلى حرق النفايات المستمر في معسكر الرشيد والنهروان وبعض مواقع جمع النفايات رغم وجود مراكز بلدية وبلديات تابعة إلى امانة بغداد والجهات الامنية الماسكة للأرض تتولى تلك المسؤولية".

   كما حذر الوكيل الفني من أن "التقرير الشهري الذي ستعرضه الوزارة على مجلس الوزراء الموقر سيتضمن أسماء وعناوين الأنشطة المستمرة بالمخالفات والجهات القطاعية المعنية بإيقاف تلك الأنشطة" ("المدى"،17/11/2024)..
   والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل سيعقب التحذير المذكور إجراءات رادعة ومعالجات فاعلة عاجلة ؟ أم ان المشكلة ستبقى موضع تصريحات وتوضيحات وتفسيرات بين المسؤولين المعنيين، بينما الوضع البيئي المتردي يتفاقم يوماً بعد اَخر، ويفتك تلوث الهواء بملوثات اوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى، بالمواطنين ويلحق اشد الضرر بصحتهم، ويرهقهم بروائحه الكريهة، بينما يواصل الأطباء التنبيه والتحذير من خطورة هذا التلوث، الذي يزيد خطر التعرض للسكتة الدماغية وامراض القلب والربو وسرطان الرئة وغيرها..

 هل ثمة أمل في إنتظار المواطنين لحلول عاجلة، أم سيكتفون بـ"تطمين" المتحدث بإسم وزارة البيئة لهم:"لا داعي للقلق"! لان وزارته "تراقب الوضع عن كثب"،وأمرهم لله لأن المراقبة واهية- محطات وزارة البيئة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة..

 الى هذا، كتب راصد الطريق:" كانت جهات معنية مختلفة، بينها وزارة البيئة، قد ذكرت سابقا ان التخلص من التلوث الخطير ممكن عن طريق اغلاق المعامل التي ترفض استخدام وقود نظيف، وفرض هذا الوقود على محطات الكهرباء والانشطة الصناعية الاخرى بضمنها معامل الطابوق، ومنع احراق النفايات في المطامر العشوائية، وغير ذلك.. لكن شيئا من هذا لم يتحقق حتى الساعة، ولم يتم اغلاق او معاقبة أي معمل او جهة اخرى مخالفة."..

    وتساءل بحق:"فهل ان هذا الحال، واستمرار اختناق بغداد والبغداديين، مما يروق للوزارة وللحكومة.. ام ماذا ؟ " ("طريق الشعب"،19/11/2024)..

  فهل من مجيب ؟


  • الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد
عرض مقالات: