إذا ما تذكرنا ما مرت به فرنسا منذ تسنم الرئيس مانويل ماكرون الرئاسة 2017 من سنوات "عجاف" عانت منها الطبقات الوسطى والفقيرة -سياسياً واقتصاديا ومعيشياً- فإن نتائج الانتخابات النيابية الفرنسية التي أظهرت تقدم تحالف اليسار لا تعد مفاجأة بالمطلق، وقد عبّرت هذه الطبقات عن احتجاجاتها خلال السنوات القليلة الماضية في انتفاضات الضواحي المهمشة، والحراك السياسي والنقابي (الإضرابات العمالية)، وحركة السترات الصفر. ولم يكن فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأُوروبية يدل على مؤشرات مطلقة على تسيده الساحة السياسية، في دول الاتحاد الأُوروبي الكبرى، ذلك بأن الوجه الآخر للمشهد السياسي ينبض بحراك طلابي شبابي فاعل يمثل الضمير الإنساني والأخلاقي العالمي برز إزاء ما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من إبادة جماعية بحق أهالي قطاع غزة.
ولعل أصوات كل هذه الفسيفساء من ألوان الطيف السياسي الاجتماعي المحسوبة تقليدياً على اليسار ساهمت تصويتياً بقدر أو بآخر في اللحظات الانتخابية الأخيرة في الجولة الثانية بقلب النتيجة رأساً على عقب، هذا بالرغم من الإحباط المزمن المرير من النظام الديمقراطي المتقادم العاجز عن تمثيل مصالح الغالبية العظمى من الطبقات المتضررة من الوضع القائم، والذي جعل رئيساً فاشلاً مثل أيمانويل ماكرون يُنتخب لولاية ثانية عام 2022 مستفيداً من انقسام اليمين المعتدل وتشتت اليسار واحباط الناخب الفرنسي من التغيير. ولعل تسرع ماكرون باستخدام المادة 12 من الدستور لحل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة على إثر فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، قد أعطى فرصة ذهبية لقوى اليسار العريض لتوحيد صفوفها سريعًا، وسحب البساط من تحت حساباته وحسابات يمين الوسط، ممثلاً في تحالفه الحاكم نفسه واليمين المتطرف، وعلى رأسه التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان.
ومع أن المعضلة الأساسية في المشهد السياسي الراهن تتمثل في عدم فوز أي كتلة من الكتل السياسية الثلاث المتصدرة نتائج الانتخابات بالأغلبية المطلقة (289 مقعداً) التي تؤهلها تشكيل حكومة جديدة، وعلى رأس هذه الكتل تحالف اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة) المكون من قوى وأحزاب: فرنسا الأبية، والاشتراكيين، وحزب الخضر، والشيوعيين، وقد حصد هذا التحالف نحو 190 مقعداً، فإن النتائج الانتخابية أظهرت بأن صعود اليمين لا يعبر بصورة حقيقية عن رأي أغلبية القواعد الانتخابية الشعبية العريضة. والحال فإن اليمين واليمين المتطرف إنما يستفيدان من اللعب فوق ملعب النظام الديمقراطي المزمن غير المجدد، اللهم إلا بشكل محدود، ويستفيدان أيضاً من تشتت وتناقضات اليسار، ناهيك عن إحباط القاعدة الشعبية العريضة من آفاق التغيير ومدى قدرة اليسار على إحداثه. على أن ماكرون ما زال يناور حتى اللحظة عن تكليف الكتلة الفائزة ( الجبهة الشعبية الجديدة) بتسمية رئيس الوزراء منها؛ لعله بذلك يستفيد من انشقاقات جديدة في صفوف اليسار، ومن ثم عقد صفقات تحالفات مع قوى اليمين واليمين المتطرف، لكن بقدر ما تتمكن "الجبهة الشعبية" من تعزيز صفوفها و تجديد برامجها، وفق شعارات ذات آليات واقعية ممكنة غير متطرفة وجاذبة للقواعد الشعبية المستفيدة من هذه البرامج، بقدر ما ستتمكن من قطع الطريق على تحالف ماكرون وحزبه الحاكم وتحالف اليمين المتطرف، ومن ثم تتمكن من الوصول إلى الأغلبية المطلقة المطلوبة .
ومؤخراً أعلن أوليفيه زعيم الحزب الاشتراكي استعداده لتولي رئاسة الحكومة، ويتردد أيضاً في المداولات اسم الشيوعية السابقة هوغيت بيلو رئيسة المجلس الإقليمي لجزيرة ريونيون، وكذلك كليمانس غيتي من حزب الخضر. ونرى بأن اليسار الذي توحد لقطع الطريق على اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة لا ينبغي له أن يختلف على مرشح موحد.
ثمة فضيحة مدوية كشفتها صحيفة "ليبراسيون" خلال الأسبوع الماضي عن تنظيم حفلات عشاء سرية منذ شهور والتي كانت تجمع المعسكر الرئاسي وأقطاب من التجمع الوطني اليميني المتطرف، على رأسهم مارين لوبان و جوردان باديلا، وهي فضيحة تكشف بجلاء مراهنة تكتل ماكرون اليميني- الذي يقدم نفسه "معتدلاً"- على التحالف مع اليمين المتطرف إذا ما جاءت النتائج الانتخابية مخيبة لتوقعاته بخسارة قاعدته النيابية وهو ما حدث .وفي تقديرنا فإن هذه الفضيحة ورقة مهمة في يد اليسار لاستقطاب المخدوعين بأن الطبقة اليمينية الحاكمة معتدلة بكل تلاوينها ويمكن الوثوق بها. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تمكن جبهة اليسار من تعزيز صفوفها والقدرة تكتيكياً على شق التحالف الحاكم باستمالة من يمكن استمالتهم منه، أو استمالة على الأقل أعداد من صفوفه بما يحقق له الأغلبية المطلقة بزعامته، وإذا ما تحقق ذلك فإنه يستطيع أن يفرض على الرئيس تسمية رئيس حكومة من كتلته.