لا أعتقد أن هناك من ينكر كم كانت صعبة - بل مستحيلة - إزاحة شبح الدكتاتور صدام، شبرا من كرسي التسلط والتحكم، إلا بتدخل عسكري من قبل دول عديدة، وعلى رأسها أمريكا، ودليل كلامي هذا هو ما حدث بعد الانسحاب من الكويت، عقب الانتفاضة الشعبانية عام 1991 يوم صار سقوط النظام قاب قوسين أو أدنى، على أيدي ثوار من أغلب محافظات العراق، لولا اتباع النظام سياسة القمع الدموي التي فتكت بالثائرين ضد النظام، والمطالبين بنهاية جثومه على صدور العراقيين، بعد أن انزلق البلد على يده شر منزلق، تحت أنقاض الحروب والسياسات الهوجاء التي مارسها ضد فئات البلد وشرائحه كافة.
فقد بسط هذا الشبح جناحه المرعب على مدن الوسط والجنوب، ومارس على سكانها كل ما يمتلك من وسائل الانتقام، فأفرغ جام غضبه على المواطنين مستغلا الحصار يدا ضاربة، ضمها الى باقي أياديه المتمثلة بأزلامه وحزبه، فغاب خلف قضبان السجون من غاب، وزهقت أرواح بعضهم، ولم يجد بعض آخر من الأحرار بدا من الهجرة خارج أرض الوطن للخلاص بـ (العزيزة).
ثم حل التاسع من نيسان من عام 2003، وانزاح شبح الدكتاتور، وكم بعث هذا الحدث في نفوس أغلبنا - وليس جميعنا - أملا كبيرا لتحول كبير في حياة العراقيين، لاسيما الذين جايلوا عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، والذين ذاق أغلبهم مرارة السياسة المتبعة آنذاك، والنهج الذي كان مفروضا عليهم رغما عن أنوفهم. غير أن هذا التغيير الجذري لم يحقق حلم المواطنين على النحو المرتجى، فللأسف فقدَ الفوز طعمه، ولم تُثمر أسماء ذاك العام ثمرا جنيا، إذ هناك من أسماه عام التحرير، وآخرون أسموه عام الاحتلال، وكذلك عام السقوط، وعام الغزو، وهو في كل الأحوال تحقق فيه حلم واحد هو الخلاص من الصنم، وهذا بحد ذاته غاية المنى والطلب ولكن، طفا على سطح الأحداث بعد ذلك، ما كان أكثر من مهول وأغرب من العجائب والغرائب، وقد هون العراقيون على أنفسهم وطأة الأحداث، بإلقاء اللائمة في سوء ما حصل بداية الأمر، على طريقة الإدارة سيئة الصيت التي أنشأها بول برايمر حينها. ولكن الأمر لم يقف على هذا الرجل لينزاح بانزياحه، فقد كان لأغلب من أخلفه ومن تصدر عتبات المراكز القيادية في البلد شر إدارة، ولم يفلح بعض مسؤولينا بتجاوز المحن التي صادفت البلاد، بل كان الأمر أكثر سوءا، لاسيما وان الهادمين أكثر من البنائين كما يقول الشاعر:
لو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى
فكيف ببان خلفه ألف هادم
وما يؤسف له أن ذاك الحال مازال قائما رغم تجاوز عقدين من عمر العراقيين، ويالخيبتهم لما رأوا الحال يسوء أكثر، بفعل الهادمين يوما بعد آخر، رغم حجم أملهم بمن ينتخبونه، ورغم ظنهم بان القفز فوق العقبات يسير على يديه بانسيابية، ولكن، يبدو ان العراقيين قد قاربوا الى حد ما وصف الشاعر في بيتيه:
عجبا للزمـان في حالتيه
وبـلاء ذهبـت منـه إليـه
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
إن في طيات مستقبل العراقيين خفايا ومفاجآت مجهولة حتى الآن، وما عليهم إلا أن يتحملوا ويصبروا، على ما جنت عليهم اختياراتهم السابقة في صناديق الاقتراع، والتي أتت أكلها (حار بحار) فور تسنم مرشيحهم عتبة كراسي التحكم واتخاذ القرار، هو درس دفعوا ثمنه باهظا، والحاذق اللبيب من يفهم الدرس جيدا من أول مرة، وليس بتكراره مثنى وثلاث ورباع... والعد يطول.