بعد سقوط سلطة دكتاتورية البعث في 2003 كان المؤمل أن يجد المواطن العراقي نفسه بعيدا عن غوائل كانت تهدد صحته وأمنه وسلامته، وأن لا يتعرض لسوء تغذية وأمراض وأوبئة وبطالة وحروب، وعجز أمام كوارث الطبيعة مثل الجفاف والحرائق، ولكن ومع مرور الزمن وجد أن قيمته المقدسة كبشر في أقصى حالات البخس والتردي، حيث تفقد إنسانيته قيمتها فيتحول إلى شخص يعيش حالات أسر واستلاب واغتراب عديدة، يفقد معها ابسط شروط الراحة النفسية والجسدية، ويعيش تحت ظروف عنف تقسو عليه وتخيفه فيها الطبيعة والسلطة معا، دون أن يجد وسيلة لحمايته، فيتضخم أمام هذه القسوة والعنف المفرط عجزه وضعفه . وخلال العشرين عاما الماضية، كانت ومازالت الكهرباء وانقطاعها المتكرر واليومي، عقوبة قاسية وبشعة يتعرض لها الإنسان العراقي بسبب القصور والتخلف وسوء إدارة السلطة لهذا الملف، لتصبح الكهرباء واحدة من أساليب العنف الممنهج حين تكون التكنولوجيا ومن يديرها سببا في تعذيب الناس واستلابهم. فمع توقفها وانقطاعها المتكرر وشحها تتعرض حياتهم لانتكاسات عديدة نفسيا وجسديا، أولها شعورهم بهدر القدرات وتعطيل المصالح. ومع توقف الأجهزة الالكترونية والكهربائية في البيت وفي دوائر ومرافق الدولة الأخرى ومثلها باقي المهن الخاصة، عندها تعدم الكثير من الفرص وتعطل العديد من الوظائف. وبشكل غير طبيعي ترتفع كلف الحصول على الكهرباء من المولدات، وتتصاعد معها وتيرة استنزاف الأموال للحصول على مواد بديله لتفادي الحر، وأيضا بسبب عطل الأجهزة المنزلية الموجب تصليحها أو أبدالها بالجديد، وبسبب قطع الكهرباء المتكرر تتعطل الكثير من الأعمال في المصانع والورش وتتلف المحاصيل الزراعية وباقي الخزين الذي يتطلب الحفاظ عليه بعمليات التبريد، ولن يتوقف تعداد تلك الأضرار التي تصيب حياة الناس جراء انقطاع التيار الكهربائي، والذي يجعل الناس تفقد  كامل الثقة بإجراءات السلطة وتجعلهم بعيدين جدا عن حياة الطمأنينة والاستقرار.

   يذرف السيد الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء العراقية الدموع ويستجدي عطوة من جارتنا الحنون الجمهورية الإسلامية لتزويد العراق المسلم بالغاز المساعد على تشغيل محطات كهربائه التي توقفت، ويعدد بصوت مجروح ومتهدج ما يقارب التسع محطات أصبحت مثلما يصفها، عبارة عن طابوق ليس إلا، بعد أن توقفت عن العمل كليا إثر امتناع جمهورية إيران الإسلامية عن فتح صنبور غازها لتزويد العراق الجار البائس الذي يمتنع عن تسديد ديونه دون مبرر معقول بل يتعمد ذلك وخاصة مع قدوم الصيف، حسب توصيف طهران للقضية.

وتتهم بعض الأوساط السياسية المشاركة في السلطة والقريبة من جمهورية إيران المسلمة، الولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على الحكومة العراقية للامتناع عن دفع مستحقات الجانب الإيراني الشقيق المسلم ، ويأتي ذلك من خلال هيمنة البنك الفدرالي الأمريكي وتحكمه بعائدات مبيعات النفط العراقي المودعة لديه، وتوقيت صرفها وطبيعة خروجها من بنوك العراق،وبهذا تختار أمريكا التوقيت المناسب أي أشهر الحر اللاهب لرفع وتيرة تذمر الشعب العراقي بالضد من حكومته المسلمة البريئة ولتطعن بعلاقتها بالجانب الإيراني أيضا، وهو المهم في هذه المعادلة التي يقع ضحيتها الشعب العراقي وليس غيره.

معادلة غريبة في بلد العجائب والمفاجآت، فلو بدأ دعاة الإصلاح والدين أحفاد آل بيت النبوة مثلما يدعون، ببناء غرفة واحدة من غرف محطات الكهرباء في كل عام لاكتملت لدينا العشرين وجهزت مع معداتها خلال فترة حكمهم. ولو تم التعاقد مع شركة حقيقية لاستغلال الغاز المصاحب للنفط بعيدا عن السرقات والتهديدات والعطوات وضياع التخصيصات، لوفر ذلك لنا خلال العشرين عاما ملايين المقامق، والأقدام المكعبة من الغاز، ولأصبح لدينا ما يحرك معدات محطات عديدة للكهرباء. ولكن مقمق السحت الحرام تخثر في العقول وما عاد يهمها غير سرقة ما يقع تحت أنظارها.

قطعا هناك من لا يستحي من مثل هذه المهزلة المقمقية. فبلد يحرق الغاز منذ أول ظهور للنفط على أرضه في عام 1927 من القرن الماضي،أي منذ ما يقارب 96  عاما دون أن تظهر معه ولحد الآن حكومة تمتلك الحكمة والرشاد والدراية لاستغلال هذه النعمة التي وهبتها الطبيعة للشعب العراقي  بسخاء مفرط، ولم تتعظ أي سلطة حكمت العراق أو تشعر بالخجل والغيرة من نظيراتها جاراتها التي بات الغاز المصاحب يشكل ثروة وطنية تدر على خزائن الدولة أرباحا طائلة.

فمصر المحروسة ذات الموارد التي لن تنافس العراق بالوفرة، فهي بلد لا يمتلك الخزين النفطي الهائل ولا الغاز المصاحب والمدفون تحت الأرض مثلما عليه العراق ولكن حكمة وإخلاص ونظافة يد وإرادة المسؤول الوطني المصري، جعلها وخلال خمس سنوات تعمل جاهدة على التعاقد دون خوف أو تردد مع شركة كهرباء رصينة من مثل شركة سيمينس لبناء أربع محطات وفرت لمصر تغطية كاملة وفائضا يسمح لها بتصدير الكهرباء.

 عشرون عام مضت واليوم نسمع رئيس الوزراء يعلن بأنهم اكتشفوا الأسباب الحقيقية لأزمة الكهرباء، المهم أنهم وبعد العشرين اكتشفوا، والباقي له رب يعالجه. وقبل هذا وعدنا صاحبهم بتصدير الفائض منها وذهب حيث وعد بجنة عرضها السماوات. وتتكرر مع الظهور الأول لجميع وزراء الكهرباء الذين تداولوا شؤون الوزارة، مقولة الوعد الذي يفقأ العيون ويدمي القلب، انتظروني ليكون صيفكم طافحا بالكهرباء وإنارتكم علينا مثل فطوركم، ويأتي الأخر ليتهم كيزرات حمامات المواطن بالذي يحدث من قطع وشح الكهرباء. فبات العراقي يجد نفسه اليوم بعد أن ضاع من حياته الكثير وخسر سنوات عمره منتظرا الفرج يأتي مع كلمة سوف ذات الرنة الذهبية والصادرة عن المسؤول. فأصبح مع هذا الوعد مولعا بأغنية أم كلثوم عن فلسطين التي غنتها قبل أكثر من خمسين عاما ومازالت  تصدح في قوانة العالم العربي دون ملل وكلل، حيث تقول الأغنية، عشرون عاما وأنا أبحث عن أرضِ وعن هوية، أبحث عن بيتي الذي هناك، عن وطني ،عن طفولتي .ليضيف لها العراقي عن كهربائي الوطنية. قولوا.. قولوا لمن يسأل عن قضيتي.. قضيتي صارت الكهرباء الوطنية.

هكذا تكون عقدة الخوف ومشاعر الذل والرخص سببا في هذا الوجع الذي يتحمله الشعب العراقي وليس سكان المثلث الأخضر، فالارتهان للغير أصبح طبعا يحتل ويهيمن على روح المسؤول العراقي ويطوقه بالأغلال، فيبحث عن إرضاء الأمريكان بعد أن ارهبوه بعقوباتهم، ويستجدي عطوة الأخوة في الجمهورية الإسلامية ، التي يرزح تحت رحمة غازها الذي يمثل له مظهرا من مظاهر الاعتزاز والهيبة الوطنية التي تساعده على الوقوف شامخا بوجه الامبريالية العالمية وصامدا بمعاندة الاحتلال الأمريكي.

 

عرض مقالات: