تمر علينا الذكرى الخامسة والسبعون لوثبة كانون الثاني التي شارك فيها جميع فئات الشعب من عمال وطلبة وكسبة، كما شاركت القوى الوطنية العراقية فيها من خلال فضح إعلان تجديد اتفاقية عام 1930 المذلة، حيث أصدرت هذه القوى بيانات تدعو للنضال ضد محاولات صالح جبر عقد معاهدة بين العراق وبريطانيا والتي أثارت ضجة كبيرة بين أبناء شعبنا ولدى اوساط واسعة من الجماهير، ثم تعمقت واشتدت المعارضة لها بعد ان تم نشر بنودها في بغداد قبل عودة صالح جبر رئيس الوزراء من بريطانيا. ولم تختلف هذه الاتفاقية عن بنود اتفاقية عام 1930 الا بقضايا بسيطة وتكاد لا تغير شيئا من شروط الاستغلال والهيمنة على بلادنا.

لقد جاء في بنود معاهدة 1930 التي ضمنت لبريطانيا امتيازات عديدة كما يصفها كتاب (فهد والحركة الوطنية في العراق)، منها الهيمنة العسكرية واحتكار عمليات تدريب الجيش العراقي واحتكار تزويد القوات المسلحة بالسلاح والعتاد البريطاني إضافة إلى ضمان سيطرة بريطانيا وشركاتها الاحتكارية على الاقتصاد والسياسات الاقتصادية العراقية، والتزام الطرف العراقي بتأمين تعاون وتنسيق مستمرين وفعالين بين أجهزة التحقيقات الجنائية اي (الأمن الداخلي) العراقية وأجهزة الأمن البريطانية لتأمين الرقابة الضرورية على الحياة السياسية العراقية ومواجهة القوى المعارضة المناهضة للسياسات البريطانية في العراق، وأخيرا تأمين الرقابة المحكمة على وزارة العدل العراقية وعلى القضاء العراقي,

لقد طرح الحزب الشيوعي العراقي حينها عدة قضايا طالب فيها برفض المعاهدة الجديدة والغاء معاهدة 1930 وتحقيق الحريات الديمقراطية وتوفير الخبز والكساء وأسعار معتدلة واسقاط وزارة صالح جبر وحل المجلس النيابي وأجراء انتخابات حرة لمجلس برلماني جديد.

لقد أدى إعلان بنود الاتفاقية في 16 كانون الثاني من عام 1948 التي يراد توقيعها في ميناء بورتسموث، إلى إصدار الأحزاب الوطنية بيان بالضد من المعاهدة بتاريخ 18 كانون الثاني 1948 حيث بدأ طلاب كلية الحقوق بالإضراب وتبع ذلك طلاب الكليات والمعاهد الأخرى، وفي يوم 20 من الشهر وجهت الشرطة رصاصها إلى الطلبة المتظاهرين والذي ادى إلى سقوط 4 شهداء منهم الشهيد الشيوعي شمران علوان. ومما زاد في التظاهر هو تصريحات رئيس الوزراء صالح جبر حين قال (إنه سيعود إلى العراق وسيسحق رؤوس هذه العناصر الفوضوية حتما).

إن هذه التصريحات يراد بها فرض ارادة الاستعمار البريطاني وبالضد من مصلحة شعبنا.. عند ذاك القى رئيس لجنة التعاون الوطني اليسارية كامل قزانجي كلمة حماسية قال فيها (أعلنوها ثورة شعبية.. ومن أجل حكومة شعبية تمثل كل الطبقات). ثم دعت القوى الوطنية مع لجان الطلبة في المعاهد والكليات إلى التظاهر يوم 27 كانون الثاني 1948 احتجاجا على سياسة الحكومة وارهابها في مواجهة مطالب الشعب حيث وجهت نيران اسلحتها إلى صدور المتظاهرين في جانبي الكرخ والرصافة وعلى جسر الشهداء (العتيق سابقا) والذي ادى إلى سقوط عدد كبير من المتظاهرين قدره الكاتب حنا بطاطو بين 300 إلى 400 شهيدا وجريحا.

وعلى إثر ذلك قدم وزير العدلية جمال بابان استقالته وكذلك قدمت مجموعة من النواب استقالتهم من المجلس وكذلك رئيس مجلس النواب بسبب قسوة المجابهة مع المتظاهرين والضحايا الكبيرة كما أسلفنا، واستقال وزراء آخرون وأجبرت هذه الاستقالات رئيس الوزراء على الاستقالة في 27 كانون الثاني وشكلت بعد يومين وزارة جديدة برئاسة السيد محمد الصدر لتدارك الأمور ومعالجة الاوضاع الجديدة. وبهذا حققت الوثبة انتصارا كبيرا في اسقاط معاهدة بورتسموث حيث الغيت المعاهدة في الأول من شباط بعد ايام من المجزرة.

كما قرر مجلس الوزراء الجديد إبلاغ الحكومة البريطانية بتغير بنود معاهدة 1930 واستبدالها بمعاهدة تخدم الشعب العراقي ومصالحه.

لكن الحركة الجماهيرية استمرت بقيادة اليسار الذي كان يضم الحزب الشيوعي واليسار من الحزب الوطني الديمقراطي (كامل قزانجي) والديمقراطي الكردستاني وفعاليات سياسية أخرى، كما حققت الحركة الاضرابية العمالية عدة نجاحات، وعقد الطلبة مؤتمرهم في ساحة السباع من دون اجازة رسمية واسسوا اتحادهم العام وانتخبوا قيادتهم في 14 نيسان وكان بحراسة العمال.

إن هذا الارث النضالي كان ينبوعا من التجربة العميقة التي كررها أبناء شعبنا في انتفاضة تشرين الأول 2019 والتي أعطت صورا من التضحية الكبيرة من أجل الوطن العزيز.. فقد كانت بحق ثورة أمل لوطن جديد، فلم تطالب بالخدمات أو التعيين في الوظائف فقط برغم أنها من الأمور البديهية لأي حكومة تنهض بتوفير الخدمات العامة من الصحة والتعليم ومعالجة البنية التحتية للبلد.. الخ، بل كان المطلب الأول "نريد وطن"، هذا الشعار الذي هز رؤوس كل من يعادي بنائه. كما طالب التشرينيون بإبعاد التدخل الخارجي بشؤون بلادنا، وقد شاركت المرأة فيها وكان صوتها مساهمة جبارة، وتعتبر هذه الانتفاضة بمثابة ثورة على كل الحكومات المتعاقبة في دورها السلبي ومواقفها اتجاه الفساد والمحسوبية والطائفية والاثنية.

إن اشتراك أبناء شعبنا بكل طوائفه وقومياته في انتفاضة تشرين دليل على معاناتهم من العسف والجور والظلم والقتل والسجن.. فرفعت خلالها شعارات وطنية ورددت اهازيج تطالب بإسقاط النظام، ولكنها جوبهت بالقتل المبرمج من داخل الحكومة وخارجها واستشهد أكثر من 800 مواطن من الشباب الذي يريد معافاة هذا الوطن. لقد اندلعت شرارة الانتفاضة التشرينية الباسلة بعد مجموعة حركات ووقفات احتجاجية في مناطق متفرقة من العراق انضم اليها خريجون وشباب عاطلون عن العمل وكسبة وطلبة ومثقفون من الرجال والنساء، خرجوا باحتجاجات ومظاهرات واعتصامات ليبحثوا عن وطن سلبته أقلية حاكمة.

إن أهم مميزات الانتفاضة هو المشاركة الواسعة من قبل ابناء شعبنا بكل فئاته إضافة إلى طول فترة الاحتجاجات التي بلغت عدة أشهر، هذه الانتفاضة رفعت المشاعر الوطنية وأعادت الأمل حيث كانت شعاراتها الوطنية عابرة للطوائف والقوميات والاديان.

لشهداء وثبة كانون الثاني وانتفاضة تشرين المجد والخلود.

 المصادر

-كاظم حبيب وزهدي الداودي -فهد والحركة الوطنية في العراق

- زكي خيري- دراسات في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي

-عبد الرزاق الحسني-تاريخ الوزارات ج7

حنا بطاطو ج2

عرض مقالات: