أنّ للاستقرار السياسي معانٍ كثيرة، كلها تتعلق بوجود حالة من الانتظام في سير الامور في اي دولة، وفق تخطيط مسبق من قبل النظام السياسي. اما اللاستقرار السياسي، فهو على العكس من ذلك يشير الى ان الامور تسير بطريقة تخالف ما مخطط لها من قبل النظام السياسي، وبالتالي فأن مردوده لن يكون محسوب وغالبا ما تصب في غير صالحه. وهناك اليات متعددة من الممكن اللجوء اليها في سبيل ارساء دعائم الاستقرار السياسي في العراق، وهي تقابل المسببات او بواعث عدم الاستقرار. فالدستور العراقي يفصل السلطات التنفيذية عن السلطتين التشريعية والقضائية. والدستور الذي ولد عبر التوافقات السياسية واسس للمحاصصة ،حيث افتقر الى التوازن تحوّل الى مصدر لتحديات تواجهها عملية البناء المؤسساتي للدولة، حيث وزعت مؤسسات الدولة الى حصص بين اطراف العملية السياسية المتصارعة عوضا عن تشكيل حكومات ائتلافية توزع الحقائب الوزارية فيها بين احزاب الائتلاف الحاكم التي تتسم ببنيتها الافقية الشاملة لجميع مكونات المجتمع بعيداً عن الاسس الطائفية والعرقية، وهذا الاسلوب تعمل به النظم الديمقراطية ذات التعددية الحزبية، وقد شوهت المحاصصة مبدأ حكم الاغلبية السياسية التي حوَّلت ديمقراطية العراق التوافقية الى اغلبية مجتمعية على اساس النسبة العددية لكل مكون من مكونات المجتمع كما شوَّهت البنى التنظيمية لمعظم الاحزاب السياسية الفاعلة على الخارطة السياسية العراقية فهي احزاب دينية وطائفية وعرقية تعتمد العضوية فيها والانتماء اليها على الانتماء الديني والطائفي والعرقي للافراد مع تزايد التوترات السياسية ، وتجسد دور المحاصصة في اضعاف اداء مؤسسات الدولة واصابتها بالشلل، في انشغال المسؤول الذي يتولى موقع المسؤولية بتحقيق اهداف الكتلة، او الحزب الذي ينتمي اليه والذي يخص مكوناً اجتماعياً معيناً يجمع اقاربه وافراد من طائفته، او قوميته، او عشيرته، او منطقته حوله دون مراعاة للأختصاص والاهلية والكفاءة، كما تنعكس عملية تغيير المسؤول، واحلال بديل آخر محله على مفاقمة العجز في الاداء الحكومي، اذ يعمد المسؤول الجديد الى تغيير المحيطين به ليأتي بالاقارب، وابناء الطائفة، او القومية او العشيرة، كما يُغيّر اسلوب العمل بما يناسب هواه، فيتم تغليب الجانب السياسي على الجانب القانوني والمؤسسي بسبب التداخل بين ما هو سياسي، وما هو مؤسسي، ويكمن الفارق بين الدور السياسي، وبين الدور المؤسسي، في امكانية قيام الاول دون الحاجة الماسة الى التخصص المهني وتراكم الخبرة والمعرفة، بينما لا يقوم الدور المؤسسي القادر على الاداء الكفوء والانجاز الاّ مع توافر التخصص والخبرة والكفاءة وتراكم المعرفة،وعدم رصانة  مؤسسات الدولة المختلفة . تواجه الحكومة تحدي الحفاظ على تمييز وفصل واضح بين هذه السلطات. وقد تَشَكَّلت الحكومة الحالية من ائتلاف لكتل الأغلبية، وستواجه لأول مرة معارضة برلمانية صريحة، فإن الزيادة المحتملة في التداخل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ستكون تحديًا آخر يواجه الحكومة الجديدة والبرلمان.          

وقد واجهت السلطات القضائية محاولات الإغراء للانزلاق إلى السياسة. عندما استقالت الحكومة السابقة تحت ضغط احتجاجات واسعة النطاق قبل عامين، أقر البرلمان السابق الكثير من التشريعات العاجلة، بما في ذلك حل مفوضية الانتخابات وتكليف قضاة بإدارتها. أجرى القضاة انتخابات غير مسبوقة. على الرغم من الشكاوى والطعون العديدة في الانتخابات السابقة، حافظ القضاء العراقي على سمعة لائقة نسبيًا لكونه مستقلًا بين شرائح واسعة من المجتمع. والجميع يعرف أن النخب السياسية العراقية على أساس إثني وطائفي، لا يمكن الاعتداد بعشرات الأحزاب التي تدّعي أنها أحزاب وطنية أو قومية لأنها فشلت في الوصول إلى السلطة، وحتى سلوك الناخب العراقي اعتمد الأساس الإثني والطائفي، والمتغير الأساسي هي متغيرات محلية. إن ضعف السلطة القضائية وعدم إستقلاليتها، وعدم تمتعها بالحصانة يؤدي الى إطمئنان المفسدين وثقتهم بالافلات من المسائلة وتحمّل التبعات القانونية، فتنعدم ثقة المواطن بالسلطة ويحجم عن الابلاغ عن حالات الفساد، ويعكس القضاء المستقل العادل والنزيه صورة مغايرة، إذ تتولى السلطة القضائية مراقبة تطبيق القوانين بأستقلال تام عن تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتكون قوية في القيام بدورها في الكشف عن خروقات القانون وحالات الفساد التي تؤثر على عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويمثِّل دور القضاء رادعاً وقائياُ ضد الفساد لإدراك الفاسدين لعدم امكانية تجنب المحاسبة والعقاب.  ومن المهم للحكومة والأحزاب السياسية التي شكلتها أو تعارضها الحفاظ على استقلال القضاء كأحد أعمدة النظام السياسي العراقي، بدلاً من الانخراط المتكرر في تفاصيل الخلافات السياسية التي لا يبدو أنها تنتهي أبداً.    

وظاهرة عدم الاستقرار السياسي من بين الظواهر المهمة التي تعاني منها اغلب دول العالم، وإذا كانت الدول المتقدمة قد تجاوزتها، عبر سلسة من الاليات وبفعل تقادم التجربة وتطورها، فعلى العكس من ذلك تعاني اغلب الدول غير المتقدمة من هذه الظاهرة، التي انعكست سلباً على كل نواحي الحياة وتفرعاتها، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إنّ تأثير البنى الأخلاقية والفكرية لا يتحكم بسلوك الفاعلين الدوليين وحسب إنما يتحكم بكل ما نعتبره شرعيًا من خلال اللغة والتواصل، لذا فيمكن أن نجد اختلافًاً في المعايير الدولية حول أي مفهوم سياسي فالديمقراطية في الولايات المتحدة لا تماثل الديمقراطية في فنلندا، جنوب أفريقيا، أو تركيا.  والدول الضعيفة وغير المستقرة تعتمد غالبا على حليف دولي قوي، يوفر لها القبول على الصعيد العالمي، ويكون سندا لها في معالجة المشاكل الداخلية والخارجية.  العراق قبل 2003، كان يتبع هذه السياسة في علاقاته الخارجية، ففي المرحلة ما بين 1958 وحتى عام 2003، كان الاتحاد السوفيتي وبعده روسيا الاتحادية حليف العراق، الذي كان حليفا قوياً ملتزم تجاه العراق بجميع الاتفاقات (1).

أن فكرة إعادة بناء الدولة الوطنیة في العراق بعد ما تعرض نظام الحكم فیھا إلى التفكیك في مختلف مؤسساتھا، تتحدد بمجموعة من العوامل الداخلیة، خاصة منھا الأسس السیاسیة والإقتصادیة والإجتماعیة والأمنیة فضلاً عن إرتباطھا بالمتغیرات الإقلیمیة والدولیة. أن مسار التحول السياسي في العراق، فهناك معارضة سياسة جاءت كرد فعل على الإستبداد السیاسي الذي مارسه النظام السابق، وعدم الإستقرار الداخلي بسبب الحروب والحصار المفروض علیه من طرف الولایات المتحدة الأمریكیة، لاسیما منھا بعد حرب الخلیج الثانیة.   

 إنعكست تأثيرات العوامل الخارجية (الاقليمية والدولية) بشكل كبير على إستقرار الوضع السياسي في العراق وخصوصاً خلال العقدين الماضيين بشكل غير خافٍ. ستواجه الحكومة الجديدة ملفات معقدة ومتداخلة تتعلق بعلاقات العراق مع دول الجوار. تباينت طبيعة ومدى التأثير الخارجي على المشهد السياسي العراقي.                  

ونرى أنَّ الدولة المدنیة تُشكِّل حلاً للمأزق الحالي، والمتمثل في تعثّر العملیة السیاسیة الناشئة عن الإحتلال وتدمیر الدولة والمجتمع، كما تضمن استقرار ووحدة العراق، الذي یمنع انھیاره وتقسیمه إلى دویلات فضلا عن تحصینه من التدخلات الأجنبیة ومن أجل تحقیق ذلك كله ینبغي إعادة النظر والالتزام  بالأسس الدستورية والقانونية والساسة، التخلص من نظام المحاصصة الطائفة الساسة، واعتماد الحوار والمصالحة الوطنیة كسبیل للخروج من الأزمة ، إقرار الحریات العامة واحترام حقوق الإنسان وترسيخ الديمقراطية، إتباع سیاسات اجتماعية وثقافیة غیر طائفیة أوإثنیة التوجه تستهدف جميع المواطنان، وضع حد للتدخل الإقلیمي والدولي من أجل بناء دولة وطنیة متماسكة ببعضھا البعض. ولعل الأمر الذي أدى إلى عدم تحقیق الوحدة الوطنیة في العراق یعود إلى إبقاء بعض القوات الأمریكیة، وعدم المشاركة السیاسیة وانعدام التوافق السیاسي والإجتماعي.             

------------------------

   1-منعم صاحي العمار، العلاقات العراقية – الروسية والبحث عن نموذج واقعي لتأطير تفاعلاتها، في مجموعة باحثين، مجلة دراسات استراتيجية، العدد 3 بغداد، مركز الدراسات الدولية، 1997، ص186 – 189