حتى الآن لا يبدو أن الأحزاب الشيوعية العربية وقوى اليسار العربي عامة في تقديري قد حاولت توظيف وسائل التواصل الاجتماعي " السوشيال ميديا" بما فيه الكفاية في عملها الإعلامي الجماهيري؛ رغم ما تتيحه هذه الوسائل العصرية من إمكانيات هائلة متنوعة لتعزيز نفوذها الجماهيري، وبخاصة في أوساط الشبيبة التي ليس خافياً على أحد أن فئة كبيرة منها اليوم لم تعد تستسيغ قراءة المواد الإعلامية المطوّلة. وأستأذنكم هنا بأن أستعرض في السطور التالية نموذجين إعلاميين من مصر، أحدهما صحفي ورقي والآخر إذاعي كلاهما أعتمد أسلوب "ما قل ودل" المكثف والمفارقة أنهما جاءا في عصر ما قبل "السوشيال ميديا"  

النموذج الأول: ونجده فيما رواه يرويه الكاتب المصري التقدمي اليساري الراحل صلاح عيسى في أحد مقالاته عن حكايته مع مجلة” كلمة ونص" التي كان يصدرها في 1947 الكاتب الغنائي مأمون الشناوي وصلاح عبد المجيد، فما أن وقعت نسخة منها في يده بأحد أكشاك الأزبكية المتخصصة في بيع الكتب القديمة في القاهرة حتى هام بغرامها، وأخذ يفتش بين ركام كتب الأكشاك المبعثرة عما يمكن حصوله على المزيد من أعدادها كلما زار الأزبكية. ومع أنها كانت بحجم الكف، فإنها - حسب وصفه- من أطرف المجلات جدة في شكلها وموضوعها، وتقدم للقارئ وجبة صحفية متكاملة، من الخبر إلى التحليل، ومن التحقيق إلى المقال. ومن الصورة إلى الكاريكاتير، وتستكتب على صفحاتها كبار الكتّاب من مشاهير الثقافة والفن والفكر والسياسة، وتمتاز بالإيجاز والسخرية اللاذعة في النقد السياسي والفني، فحجم المقال لا يزيد عن 20 سطرا والخبر في سطر ونصف. 

النموذج الثاني: ونجده في برنامج كانت تبثه "إذاعة القاهرة" في شهر رمضان قبل سنوات غير بعيدة وتقدمه المذيعة القديرة بثينة كامل بعنوان" غيرت رأيك ليه؟ ”ومع أن مدته لا تتجاوز الخمس دقائق إلا أنها تطرح خلاله خمسة أسئلة كبيرة تبدو مُحرجة لمن تستضيفهم من كبار الثقافة والفكر والفن والأدب، حول تغيير بعض مواقفهم وآرائهم في مسيرة حياتهم الثقافية أو السياسية، سواء أكان التغيير بدافع" انتهازي" منفعي يحاولون تبريره أم لدوافع موضوعية استجدت، إلا أنهم يرحبون بتلك الأسئلة بصدر رحب ويجيبون عنها أيضاً بما "قل ودل" في حدود دقيقة عن السؤال الواحد، ومن أبرز الشخصيات التي أستضافها البرنامج من اليسار:  المفكر الشيوعي الراحل محمود أمين العالم ، وخالد محي الدين ، أحد قادة ثورة يوليو، والروائية والكاتبة السياسية لطيفة الزيات .

وإذا كان هذا النوع المكثف من المواد الإعلامية المقروءة والمسموعة الخفيفة، على نحو ما استعرضناه في النموذجين الإعلاميين السابقين  قد عُرفا في وقت لم تظهر فيه بعد وسائط التواصل الاجتماعي، أليس حرياً مع دخولنا عصر السرعة وتعدد وسائل الاتصال الجماهيري أن تولي أحزابنا الشيوعية واليسارية اليوم هذه المسألة أهمية قصوى وبصورة ملحة لانتهاج هذا الأسلوب لتوصيل رسائلها السياسية سواء للشبيبة أو عامة الجماهير، بما في ذلك الرسالة الإعلامية  الورقية في شكل كراس أو بحجم الكف على شاكلة مجلة كلمة ونص الآنفة الذكر أو برنامج "غيرت رأيك ليه " فيما يتعلق بالبرامج الإذاعية التي يقدمها مذيعون يساريون، ذلك بأن جذب واستقطاب الشبيبة وعامة الناس بهذا الأسلوب الإعلامي الملائم لإيقاع عصرنا سيكون ذا فائدة عظيمة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال التخلي عن الصحافة الورقية الكبيرة والمجلات الشهرية واصدارات الكتب.

 

عرض مقالات: