حتى ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، كان الإنغلاق المعلوماتي هو السمة الغالبة في جميع أنحاء العالم، وباستثناء نخب محدودة امتلك أفرادها مهارات في لغات أجنبية، وقدرات مالية تسمح لهم بالوصول الى معلومات عن المجتمعات الأخرى، كانت أغلبية المجتمعات والشعوب، قابلة للقطعنة والتجييش من قبل الفئات المتنفذة فيها وصاحبة الهيمنة على وسائل الإعلام. وهذا ما وفر لتلك الفئات إمكانية دفع مئات الملايين من مختلف الشعوب والقارات الى قتل بعضهم البعض في حربين عالميتين، أستخدمت فيهما أسلحة الأبادة الجماعية من كيمياوية ونووية. وقتل فيهما عشرات الملايين، ممن حمستهم بروبغاندا الحكام، أو ممن زجوا فيهما قسرا، أو من ضحاباهم من المدنيين العزل.
وفي حقبة ما سمي بالحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والأشتراكي التي أمتدت حتى سبعينات القرن الماضي، استمرت الحروب بين حركات التحرر الوطني وبقايا النظام الأستعماري، واستخدمت في كثير منها اسلحة محرمة مثل القنابل الفسفورية والعنقودية والكيمياوبة التي أطلق عليها اسم ـ العامل البرتقالي. وباستثناء الحرب العالمية الأولى كأن للولايات المتحدة أبرز الأدوار في تلك الحروب وهي من أستخدم الأسلحة النووية والفسفورية والعنقودية، في اليابان وفيتنام وغيرهما من الأماكن.
ما ميز حروب حقبة الحرب الباردة، أنها جرت في ظروف أنفتاح معلوماتي جزئي، أتاح لأوساط أوسع فأوسع الأطلاع على مجريات تلك الحرب وما يرتكب فيها من فضاعات، وربما تحديد الجهات المسؤولة عنها، أمر ساعد على تشكل جماعات نشطت في معارضتها ورفص الأنخراط بها. لكن ذلك التطور الأيجابي لم يخل من أستثناءات، لعل أبرزها الصراع العربي ـ الأسرائيلي، حيث واصلت الأوساط المرتبطة بالصهيونبة العالمية، عبر هيمنتها على الأمبراطوريات اإلاعلامية، تزويد الرأي العام في أوربا والولايات المتحدة بمعلومات مضللة عن طبيعة الصراع، وتصوير الحروب العدوانية التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، على أنها حروب دفاعية وليست حروبا تستهدف الأحتلال والتوسع والأستيطان، ومنع الشعب الفلسطيني من حقوقة الشرعية الثابتة في وطنه.
ومع الثورة المعلوماتية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ساد ما يشبه الوهم بأن العزلة المعلوماتية قد ولت إلى غير رجعة، وأن العالم أصبح قرية صغيرة يطلع سكانها على كل التفاصيل في أزقتها وحقولها. لكن مجزرة قانا التي أرتكبتها إسرائيل جنوب لبنان عام 1996 شككت بهذا الوهم، ورغم أن إسرائيل، قتلت 250 وجرحت أعدادا أكبر من حوالي 800 مدني أغلبهم نساء وأطفال، كانوا تحت حماية قوة السلام الدولية ( اليونفيل ) التابعة للأمم المتحدة. فان المعلومات عن تلك المجزرة الرهيبة لم تحجب فقط عن الرأي العام العالمي، بل قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بتكبيل منظمة الأمم المتحدة ومنعها من أدانة مذبحة جرت بحق مدنيين ظنوا أن علمها قادر على حمايتهم. وأشهرت واشنطن حق النقض (( الفيتو )) ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدين الدولة القاتلة. وفي تبريره لجريمة مساعدة قتلة الأبرياء على الإفلات من العقاب قال الرئيس الأمريكي حينها بيل كلينتون: ان ما جرى كان خطأ من نوع الاخطاء التي تحدث في الحروب، مضيفا: (( ان للإسرائيليين الحق في الدفاع عن انفسهم )). ولم يكن الفيتو الأمريكي الداعم لمجرمي قانا، الأول ولا الأخير في سلسلة لم تنقطع من ((الفيتوات)) المساندة لمجرمي الحرب الإسرائيليين.
مع الألفية الثالثة تطورت وسائل الأتصال على نحو غير مسبوق، وساد الظن أن بأمكان أي شخص الأطلاع على أية معلومة، بمجرد كبسة زر على هاتفه الجوال. وشجع على هذا الوهم رؤية الأنترنيت، وهو يحتوي على كل شيء، بما فيه منشورات العصابات الإرهابية التي تجند الأرهابيين وحتى تطلعهم على طرق تنفبذ العمليات الإرهابيبة، والى جانب منشوراتهم التي تظهر عمليات ذبح البشر. وكانت الحرية المتاحة للإرهابيين في نشر فكرهم وتجنيد الشباب لنشاطاتهم الإحرامية، تثير تساؤلات لدى البعض عن أسباب عدم قيام الجهات المسؤولة عن وسائل التواصل الأجتماعي بمنع ذلك النشاط الدعائي الإرهابي. وعادة ما كان الرد على تلك التساؤلات أما بكون ذلك سيشكل تقييدا لحرية الرأي، أو عدم أمتلاك الجهات المعنية القدرة التقنية على المنع.
وجاءت الحرب الأوكرانية لتفند كلا التبريرين، ففي غضون أيام جرى إغلاق كل المنافذ أمام روسيا، لطرح وجهة نظرها في الأزمة، سدت أبواب الأنترنيت التي كانت وما تزال مشرعة أمام الأرهابيين، بوجه وسائل الإعلام الروسية باللغات الأخرى، ولم يعد بأمكان الأوربي أو الأمريكي أن يسمع وجهة نظر أخرى غير وجهة نظر واشنطن والناتو، وهيستيريا بوريس جونسون. وعاد الفرد البسيط الى وضع شبيه بأوضاع أسلافه ما قبل ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، لتتوافق رؤيته ويتطابق موقفه مع رؤية وموقف لوبيات مجمعات صناعة الأسلحة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وليتجند جنبا الى جنب مع الفصائل العنصرية في أوكرانيا التي أوصلت الأوضاع إلى ما هي عليه، من خطر صدام نووي يكتب قصة النهاية لوجود البشر على الكوكب الأزرق، الذي لا ندري إن كان لونه سيبقى أزرقا بعد يوم القيامة، الذي يستعجلة صقور الناتو، أم أنه سيتغير؟