اكدت خطة التنمية الوطنية لعام 2017 ان النظام التعليمي في العراق " يعاني من خلل بنيوي " ، و لهذا فقد فشل في انجاز المهمة الاولى له ، وهي تنمية المورد البشري . اذ يخضع الطلاب بمختلف المراحل الدراسية الى نظام تربوي يعتمد الاسلوب التقليدي القائم على مناهج تقوم على التلقين والاستماع . وهذه الظاهرة ليست جديدة على النظام التعليمي في العراق ، لكنها اخذت مديات اوسع بعد الازمة البنيوية العامة التي خلفها مشروع الاحتلال بعد 2003 وممارسات القوى الي هرولت خلفه وارتباطا بالفساد المالي المستشري في مختلف مفاصل العملية التعليمية وانعدام الرؤى الستراتيجية والوقوع في فخ التجريب دون دراسة جدوى متانية تاخذ الخصائص المختلفة للمجتمع والبيئة التربوية العراقية .
       وما علينا الا ان نجري مسحا سريعا لمخرجات النظام التعليمي في العراق بعد 2003 لكي نثبت التداعي والانهيار اللذين تواجههما العملية التربوية :
      من مجموع ( 10658 ) مدرسة ، نجد ان ( 9165 ) مدرسة اما غير صالحة او تحتاج الى ترميم . ولكي ننهي ظاهرة الازدواج الثنائي والثلاثي نحتاج الى ( 15000) مدرسة اضافية على الاقل . كما ان 30% من الابنية المدرسية تعاني من تدني كفاءة المرافق الصحية ، و 28% منها تعاني من تدني منظومة الماء الصالح للشرب ، و41% منها بلا صرف صحي ، و17% من المدارس بدون اسيجة .

       وكما هو معروف فان البيئة المدرسية الملائمة تبدا بوجود بناية مدرسية ذات مواصفات محددة تساعد العملية التربوية على تحقيق اهدافها. لذا نجد ان ازمة الابنية المدرسية انجبت مجموعة من المعوقات المستعصية والتي تركت تاثيرها الواضح على المستوى العلمي و نسب النجاح ومن هذه المعوقات : الازدواج الثنائي والثلاثي الذي يقلص من وقت الدوام اليومي والحصة الدراسية ، زيادة نسبة الطلاب في الصف الواحد اذ تصل احيانا الى ( 70 ) طالبا في الصف الواحد ، فوضى كبيرة في الاجواء المدرسية نتيجة خروج ودخول الطلاب بعد انتهاء دوام كل مدرسة ، صعوبة السيطرة على الصف المدرسي اثناء الدرس او السيطرة على الساحة المدرسية اثناء الفرص . 
         انتشار ظاهرة التدريس " الخصوصي " التي اصبحت ظاهرة مجتمعية يصعب حلها من خلال الاوامر الادارية او التعليمات الصادرة من دوائر التربية ، وبسبب صعوبة معالجة هذه الظاهرة لجات دوائر التربية الى شرعنتها من خلال منح رخص واجازات ل" معاهد" تشرعن التدريس الخصوصي فيها . 
      بلغت نسبة الامية حوالي 25% من سكان العراق اي حوالي ( 12 ) مليون امي ، وهو رقم مخجل و نكوص كبير تعرضت له العملية الاجتماعية ، ففي وقت تقلصت الامية في العراق الى 1% اواسط السبعينات عدنا القهقرى عام 2016 . 
       لا توجد ارقام دقيقة عن نسب التسرب من التعليم ، ولكنها احدى مخرجات النظام التعليمي الخطيرة ويمكن الاستدلال على حجم التسرب من خلال تجميد قانون التعليم الالزامي عمليا اذ لا تتعرض الاسر التي لا ترسل اطفالها لاي نوع من المتابعة او العقاب . اضافة الى وجود مئات الالاف من المهمشين والعاطلين غير المتعلمين والاطفال المنتشرين في الشوارع والساحات .ومئات الالاف من خريجي الكليات العاطلين عن العمل .
        خصخصة التعليم التي تجري بشكل سريع ومحموم ووفق " القانون " في جميع المحافظات ، وهذا الموضوع وحده يحتاج الى دراسة خاصة ، ولكن من خلال تجربة السنوات القليلة الماضية يمكنني ان اقوم بتوصيف سريع لتلك التجربة : تم منح اجازات فتح مدارس ثانوية وابتدائية في بيوت صغيرة تحايلا على المعايير التي وضعها القانون ، فتحولت المطابخ وغرف صغيرة أخرى الى قاعات دراسية ، وتفتقر اغلب المدارس الاهلية الى معايير البيئة المدرسية الملائمة ، ويتم استغلال المدرسين والمعلمين المتقاعدين وغيرهم باجور متدنية . وباختصار اصبح انشاء مدرسة خاصة مشروعا استثماريا بحتا ، انعكس ذلك في نسب النجاح المتدنية جدا في الكثير من هذه المدارس .
      ان اخطر ما انتجه النظام التعليمي بعد 2003 هو الهدر الكبير في المورد البشري . اذ تؤكد خطة التنمية الوطنية ان 50% من المسجلين في الدراسة الابتدائية يعبرون الى المتوسطة ، و 50% من طلاب المتوسطة يعبرون الى الاعدادية ، و50% من طلاب الاعدادية يعبرون الى الجامعة . وعلى ضوء ما اكدته خطة التنمية فان من 100 طالب يدخلون الابتدائية يتخرج 13 طالب فقط من الدراسة الاعدادية وبقية الطلبة اي 87 طالب ما بين متسرب او راسب وتخلف عن اللحاق بزملائه . ان نسبة 87% هدر في المورد البشري يجعل من نظامنا التعليمي امام مشهد متدهور بائس لا يحسد عليه . ولن تسعفه القرارات الترقيعية مثل اضافة دور ثالث او منح الطلاب 10 درجات لتحسين نسب النجاح وما الى ذلك من طرائق اضرت كثيرا بالمستوى العلمي للدارسين . 
     لا اريد الخوض في موضوعات اخرى كثيرة تؤكد الخلل البنيوي في النظام التعليمي في العراق وساكتفي بذكرها مثل المناهج المدرسية ، ما لها وما عليها ، الاشراف والاختصاص التربوي ، الادارة المدرسية ومعايير اختيار المدراء والمعاونين ، اعادة تاهيل الهيئات التعليمية وفق متطلبات التطورات في ظل التقدم التكنولوجي ، الامتحانات وطرائق قياس المستوى العلمي للطلبة ، شعب واقسام التربية وما تعانيه من نمطية الادارة الكلاسيكية ، مجالس الاباء ودورها الفعلي المخطط له وشكلية عملها الراهن .

     لا يمكن فصل النظام التعليمي في العراق عن الازمة العامة الشاملة التي عصفت بالمجتمع العراقي بكافة جوانبه .  ومعالجة النظام التعليمي المتردي ترتبط ارتباطا وثيقا بمعالجة الظاهرة العراقية ، فهي ليست مشكلة فنية وانما هي مشكلة سياسية في المقام الأول ، و سيستمر التعليم في التدهور اذا بقيت المنظومة السياسية الراهنة تمتلك مقاليد السلطة ، فلا يمكن وليس من المنطق ان الكتل المهيمنة على القرار السياسي لسنوات طويلة تستطيع وضع حلول للازمة التي كانت تلك الكتل طرفا أساسيا في صنعها .

عرض مقالات: