اثار الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا ردود فعل متباينة، ليس بين المراكز العالمية والإقليمية المتصارعة او المتنافسة، ولكن حتى في أوساط قوى السلام والتقدم، التي ورغم رفضها الصريح للحرب، ودعوتها الصادقة للسلام، لا زالت أوساط منها تحاول ان تجد بها الشكل وذاك تبريرا، لما أقدم عليه الرئيس الروسي.

سوف لا اتتبع الاحداث المتسارعة، او اكرر ذكرها، فلقد اشير اليها كثيرا، وتعب معلقو الفضائيات من التكرار. هذه المساهمة اسعى  للمشاركة في تسليط الضوء على جوانب، أتمنى ان لا تغييب عن اذهان من ينظرون الى الصراع نظرة أحادية مرتبطة بالتوازنات السياسية الدولية، مدفوعين خطأ للتميز بين مراكز الهيمنة الرأسمالية التي يدفع شعب اوكرانيا هذه المرة ثمن صراعاتهم وتوازناتهم ومعرفتهم بمساحات تحرك بعضهم البعض.

ملايين الناس يطالبون بالوقف الفوري للحرب، بعيدا عن حسابات الغزاة ومنافسيهم، وهم بهذا يعبرون عن الحس الإنساني السليم. ويأتي اعلان التضامن مع سكان أوكرانيا موازيا ومتداخلا مع الدعوة للسلام الفوري. لقد عانى هذا الشعب من الاستغلال والقمع والفساد والفقر المتزايد، على ايدي اليمين المتطرف ودعاة الليبرالية الجديدة، ويواجه الآن أيضًا دمار الحرب، وتداعياتها وشبح الموت الذي يجوب مدن وقرى البلاد.

وهو أمر ليس بجديد على العراقيين الذين عاشوا اهوال حماقات الدكتاتورية وحروبها العبثية وغزو وحصار الولايات المتحدة وحلفائها واتباعها. ورغم قساوة التجربة التي عشناها ولا نزال، نرى ان هناك عراقيين يمجدون بوتين ويراهنون على انتصاره، اما العنصرية المتخلفة التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي ضد النساء في أوكرانيا، فهي دليل على عمق الخراب الذي يلم بنا.

جاء الغزو الروسي بعد سلسلة من الضغوطات الغربية، وسقوط رئيسها في فخ المراهنة على دعم بلدان الناتو. ومن جانبها هيأت روسيا غطاء شكليا للغزو عبر الاعتراف لما يسمى بالجمهوريات الشعبية، وهي نسخة محسنة لمسرحية الفرع والأصل الصدامية، حينها راهن صدام حسين هو الآخر على امر معاكس تماما، أي عدم تدخل الأمريكان.

من الضروري التأكيد ان الصراع يدور بين مراكز هيمنة رأسمالية، تقود أنظمة تتصارع تحت خيمة الرأسمالية، وتختلف على حصتها، وليس على طبيعة النظام. ولذلك فهذه المراكز (روسيا والناتو) تعرف حدود مساحات تحركها، وبالتالي فان هذه الحقيقة لم تغب عن ذهن الرئيس الروسي، الذي يعلم جيدا ان علاقة الغرب بالنظام الحاكم في أوكرانيا لا تتعدى استخدامه كورقة ضغط رابحة ضد بلاده، وان هذا الغرب سيكتفي بتقديم الدعم المالي وشحنات الأسلحة لأوكرانيا، ولكنه لن يغامر في خوض حرب عالمية غير محسوبة النتائج، من أجل بلد لا يقع في فضاء النواة الصلبة لهيمنته، ولا يشكل احتلاله تهديدا لهذه الهيمنة. بالإضافة الى ان البلدان الرأسمالية مجتمعة، قد تعلمت درس الحرب العالمية الثانية جيدا، عندما دفع جنون النازية بالعالم الى الهاوية، وكاد النظام الرأسمالي ان يفقد هيمنته على العالم، يوم فتحت أكثر من نافذة للنظام البديل الصاعد، ولكن المساومات والتقديم المتبادل للتنازلات قادت العالم الى توازن ظل مستمرا قرابة 50 عاما. وبالتالي فان الدرس الأوكراني ناقوس في اذان المعولين على الولايات المتحدة في اجراء أي تغيير في منطقة ما من العالم لصالح الشعوب. وبالمقابل لابد من تذكير المعجبين بشجاعة بوتين، بان آخر ضيوفه قبل اعلان الحرب كان الرئيس البرازيلي المعروف بفاشيته الصريحة، وان الرئيس الروسي القى باللائمة على لينين والبلاشفة لعملهم بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

بعبارة أخرى ان "الحرب حسمت قبل ان تبدأ"، على حد تعبير الصديق الأستاذ هاني عرفات، وان ما يجري ليس فصلا من نظرية المؤامرة، بل آليات تحكم حراك المتصارعين.

وهذه الحرب هي أيضًا جزء من الصراع بين الولايات المتحدة والصين للهيمنة على العالم. لقد أعلنت إدارة بايدن أن الصين هي "المنافس الرئيسي" وروسيا "الأكثر خطورة". ان تبادل أدوار الهيمنة بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، الذي عاشه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أي تجاوز الولايات المتحدة الامريكية، باعتبارها الغول الاقتصادي الصاعد، لبريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها، ربما سيعيد نفسه بين الصين الصاعدة اقتصاديا، و "صديقتها" روسيا التي لا تزال بمعيار القدرات العسكرية، الأكثر خطورة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فالاقتصاد في النهاية هو من يحدد تسلسل المهيمنين.

ان تداعيات الحرب الجارية تتجاوز الحدث، لتنعش النزعة القومية الرجعية، وتصب الماء في طاحونة اليمين المتطرف الصاعد أصلا في أوربا، ناهيك عن احتمال تدفق الملايين من اللاجئين، ومزيدا من الازمات الاجتماعية والاقتصادية، في وقت لا يزال العالم فيه يواجه ازمة كورونا.

هذه الحرب لا علاقة لها على الإطلاق بحماية السكان المتضررين، لا بالنسبة للناتو الذي غزا ودمر العديد من البلدان، وقدم الدعم لأعتى الدكتاتوريات طالما ان استمرارها في السلطة يناسبه، ولا بالنسبة لبوتين الذي يحتفظ بأفضل العلاقات مع معظم الأحزاب اليمينية واليمينة المتطرفة في العالم، ويبرر غزوه بمناهضة الفاشية" أو "الدفاع عن الحقوق الديمقراطية"، وسوف لن تؤدي، هذه الحرب الى المساهمة في انهاء او خفض التوترات بين المراكز الرأسمالية.

ومن الواضح ان على كل المناضلين من اجل قيم السلام والحرية والتقدم، عدم المراهنة على وعي زائف ومضلل يقوم على فكرة ان الحسم بالحرب والعنف سيصنع السلام، ان من بصنع السلام هو جود حركة سياسية واجتماعية عالمية مضادة للحرب ولأطماع الإمبرياليتين مهما تعددت عناوينها.

 

عرض مقالات: