تبدو الانتخابات البرلمانية التي ستُجرىٰ في العراق غداً بأنها تشكل -للأسف الشديد- خذلاناً لانتفاضة تشرين الشعبية العظيمة، سواءً بقصد ووعي من القائمين عليها والمشاركين فيها أم بدون قصد ووعي، وبغض النظر أيضاً عن حسن نوايا المرشحين والمصوتين الذين يعلقون آمالاً عليها مهما بدت لهم ضآلتها نحو التغيير، وإن يبدو في واقع الحال سراباً، كما تشكل أيضاً خذلاناً لدماء المئات من الشهداء من شبيبتها الزكية التي لما تجف بعد، وطعنا كذلك للمئات من اُمهاتهم المثكولات المفجوعات، ناهيك عن الجرحى والمعوقين. 

كلا لم يضح هؤلاء الشبان على مدى عامين من الانتفاضة من أجل لا شيء لتذهب دماؤهم هدراً وتُحتقر مطالبهم وأرواحهم! وإلا فماذا يعني أجراء انتخابات في ظل نظام ما قبل الانتفاضة بقضه وقضيضه وبكل ما أفرزه من مآس وكوارث ممتدة متفاقمة ومتعاقبة على مدى 18 عاماً لم يتجرع خلالها الشعب العراقي أهوالاً مماثلة منذ قرن على نشأة الدولة؟ ماذا تعني انتخابات سيكون حصادها إعادة انتاج ذات الطبقة السياسية الحاكمة المستبدة الفاسدة نفسها؟ وهي المستقوية في استمرارا تغلغلها ونفوذها الطاغيين داخل مفاصل الدولة بالمال السياسي وبما تملكه من قدرات مالية هائلة منهوبة من المال العام لإفساد من يمكن إفسادهم داخل الدولة والمجتمع، بل والعديد من ومؤسسات المجتمع المدني، ناهيك عن عدد من الأحزاب والمؤسسات الإعلامية، وهذا المال السياسي ليس ببعيد أن يتم توظيفه انتخابياً لصالحها بحيل شتى برعت في إخفائها، والأسوأ الأجرم إن الطبقة السياسية الجديدة ستكون هي ذاتها الطبقة الحاكمة المسؤولة عن محاولات القمع الوحشي الحثيث للانتفاضة، سواء علانيةً على أيدي الشرطة أم خفيةً على أيدي القناصة من الشرطة ذاتها بلباس مدني أو من بلطجيتها المقنعين فوق السطوح لتزهق أرواح فتيان عُزّل مسالمين في أعمار الزهور بالرصاص الحي، دع عنك آلاف الجرحى والمعوقين . 

وما كان لهذه الطبقة السياسية الفاسدة التي تتدثر برداء الدين ،والدين منها براء، أن ترتكب كل تلك المذابح الوحشية بحق مئات الشباب لديمومة بقاءها في الحكم والمحافظة على ثرواتها الفسادية وتنميتها أضعافا مضاعفة دون أن تمس وتصادر أو أن يقدم كل المستفيدين منها للمحاكمة،  لولا استقوائها بذراعها الضارب الذي تشكله ميليشيات الأحزاب التي تمثلها في السلطة، علاوةً على  استقوائها المعلوم بدولة مجاورة لا تهمها مصالح الشعب العراقي بقدر ما يهمها جعل العراق ساحة من ساحات صراعاتها وتصفية حساباتها مع أعدائها الدوليين( الولايات المتحدة تحديداً ) بما يخدم أجندتها السياسية والاقتصادية والتي لا يسترها خطابها الشعبوي الديني "الثورجي" المتقادم المعهود منذ عام 1979. 

لقد كانت أنتفاضة تشرين الباسلة من أعظم انتفاضات وثورات الشعب العراقي في تاريخه المعاصر، ومن ثم فإنها وتكتسب أهميتها التاريخية والسياسية لجملة من الدلالات والاعتبارات التالية: 

أولا: هي تشكل أول انتفاضة كبرى تتميز بالجرأة والاستبسال والإقدام والتضحية بلا مبالاة من قِبل شبابها بأرواحهم وبصدور عارية في مواجهة القمع الوحشي المفرط الذي فشل في إخمادها، وبخاصة أنها تستند على قاعدة شعبية عريضة غير مسبوقة تاريخياً لا تخلو من مغزى إذ جاءت بعد نحو ستة عقود من الأنظمة الدكتاتورية القمعية المتعاقبة منذ الإطاحة بثورة تموز 1958 في شباط الأسود 1963. 

ثانياً : دون التقليل من دور القوى الوطنية الداعمة بقوة للانتفاضة ومشاركتها فيها بأعداد لا بأس بها من مناضليها الشباب، فإن انتفاضة تشرين الشبابية تميزت عن كل أو معظم انتفاضات الشعب العراقي السابقة، وتحديداً  ‫منذ قيام الدولة الحديثة، بكونها أول ثورة شعبية يغلب عليها الطابع العفوي والقيادات الذاتية الميدانية ذات المجاميع المتعددة في المحافظات بدون أن يجمعها رابط منظِم واحد في ظل غياب قيادة مركزية واحدة جراء طابعها العفوي نفسه، وهذا هو بالضبط ما يميزها عن انتفاضات ما قبل ثورة تموز التي غلب عليها الطابع المنظم الذي توجهه أحزاب وطنية وتسهم في رفع مطاليب تحررية وطنية إبان الحقبة الاستعمارية، في حين غلب على انتفاضة تشرين -كما نعلم - المطالب الثورية الواضحة ذات المضامين الإصلاحية الجذرية للنظام السياسي القائم لجعله نظاماً مدنياً ديمقراطيا حقاً، والرفض الصريح لنظام المحاصصة القائم، والمطالبة باجتثاث الفساد، وتفعيل وإصلاح الخدمات العامة الأساسية ( الصحة، الكهرباء ، الماء، قطاع التعليم، العمل والتوظيف ) و المشلولة بفعل المفسدين في الأرض المتدثرين برداء الشعارات الدينية الأيديولوجية المخاتلة والذي نزعته جماهير الانتفاضة منهم وما عاد ينطلي عليهم، كما كان الحال في السنوات الأولى من تشييد هذا النظام. وبالجملة فقد كانت مطالبهم تتلخص من أجل العيش في وطن جديد تظلله قولاً وفعلاً قيم وحقوق المواطنة الواحدة والعيش بحرية وكرامة. 

ثالثا: لعل واحدة من أبرز مآثر انتفاضة تشرين أنها تميزت بوعيها الوطني بابتعادها عن الشعارات الطائفية، وهذه المأثرة إنما تتجلى أهميتها وعظمتها الفائقة من كونها جرت في ظل خطاب خطير تبثه وتنشره قوى الإسلام السياسي والمتنفذة داخل الدولة والمجتمع (لا سيما في المحافظات الجنوبية) وهو خطاب معروف بشعاراته الطائفية و استغلاله للمناسبات الدينية الشعبية المتعددة لتحقيق ذلك ، ومازال هذا الخطاب يتسيد الساحة السياسية منذ احتكاره المزمن للسلطة قبل نحو عقدين من الزمن، فضلاً عن احتكاره وسائل الإعلام الجماهيرية، من صحافة وقنوات فضائية بالعشرات تعمل على مدار الساعة على دغدغة مشاعر الجماهير الدينية المذهبية العادية البريئة لحرف وعيها الديني البسيط نحو التدين المتحزب المؤدلج  بدلاً من التدين العادي، بل ولا تتوانى عن بث إثارة الطائفية فيه غمزاً أو لمزاً بما يخدم  أجندتها ومصالحها  الطائفية الضيقة ومنها التحشيد الفئوي السياسي والانتخابي، وهذا الخطاب الإعلامي المهيمن على الساحة السياسية توجهه- كما نعلم-  قوى سياسية دينية نافذة داخل السلطة وخارجها مدعومة بأعداد كبيرة من رجال الدين المتمصلحين والموالين لها!   

عرض مقالات: