صرح الدكتور فؤاد معصوم في برنامج "خطى" الذي يقدمه الزميل علاء الحطاب على القناة العراقية، ان سبب هجومهم على مقرات الحزب الشيوعي العراقي في بشتاشان يوم الأول من أيار عام ١٩٨٣، هو قيام قوة من الحزب الشيوعي العراقي بتصفية مقاتلين تابعين للاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) اثناء عودتهم لزيارة أهلهم.

وهذا أغرب وأحدث تبرير يصدر من قيادي في أوك، وقد وجدت أنه تبرير مجافٍ للحقيقة، ومشوّه للتاريخ ومناقض للواقع. وإذ أرد هنا على هذا الافتراء، فلكوني كنت عضوا في حركة الأنصار، والمسؤول العسكري لموقع "بولي" وهو أحد المدخلين الأساسيين إلى بشتاشان. وقبل ذلك، ورغم صغر سني آنذاك، كنت المسؤول العسكري لحماية المكتب السياسي والمكتب العسكري للحزب الشيوعي العراقي، وهذا الموقع جعلني مطلعا على أمور كثيرة، بضمنها سير العلاقة وأزمتها مع الاتحاد الوطني الكردستاني.

وعودة إلى الادعاء المضحك، الذي لم يكن الوحيد الذي برر به قادة اوك اعتداءهم الآثم على مقرات الحزب الشيوعي العراقي، في محاولة لإخفاء الدافع الأساسي للعدوان. فلطالما راوغوا في الاعتراف بمسؤوليتهم عن عملية الغدر المدانة التي لا يمكن انكارها، والتي كانت عربون تفاوضهم مع النظام الدكتاتوري، ومدخل اتفاقهم معه. حيث نفذوا في ضوء ذلك عملية الغدر التي جرحت الضمير الإنساني، وخزّت من خطط لها ومن قادها وشارك في تنفيذها. ففيها تمت تصفية أكثر من ٧٠ شخصية سياسية وعلمية وثقافية ونقابية، وكانت عملية غدر مدفوعة الثمن، لم يسلم منها حتى النساء، حيث جرت اعدامات ميدانية شنيعة.

كان يفترض بالدكتور فؤاد معصوم وهو في آخر سني حياته، أن يعرض المعطيات ويبين الحقيقة الناصعة، مثلما فعل وعرض قسما منها القيادي في اوك حكمت محمد كريم (ملا بختيار) في كتابه "بمثابة مذكرات" (لە بری بیرەوەری) ، عسى أن يخفف ذلك عن كاهله إثم العدوان. لا أن يدلي بمعلومة مشوهة لا صحة لها، وينسج من ذاكرته تصورا لا تدعمه الوقائع، حيث عجز عن ذكر تفاصيل الواقعة، ولم يسند قوله بأي دليل تاريخي أو وثيقة تضفي على ما ادعى شيئا من الصدقية، ولم يذكر الزمان ولا المكان، ولا التاريخ ولا الأسماء، وإني لأضعه أمام تحدي إبراز وثيقة واحدة أصدرتها قيادة اوك في تلك الفترة، تدعم الافتراء.

كما أطرح أربعة أسئلة فقط برسم الإجابة من قبله، حيث لا مجال هنا للإكثار منها:

 هل تم ما ادعيت وقوعه، قبل يوم ٥ شباط ١٩٨٣؟ وهل جرى بحثه في الاجتماع المشترك الذي عقد في ذلك اليوم بين حزبنا وأوك، وصدر عنه بلاغ مشترك سُمي "الاتفاق الاستراتيجي"؟

لابد لي هنا من التذكير بتعرض مفرزة من أنصار حزبنا، كانت تحمل البريد الحزبي إلى المقر، الى اعتداء غير متوقع من قبل مجموعة مسلحة من اوك، كانت حصيلته استشهاد ثلاثة رفاق وأسر أربعة آخرين. وقد حصل ذلك دون سابق إنذار وقبل ان ينشف حبر "الاتفاق الاستراتيجي".  وأمامنا رسالة نو شيروان في13/آذار/1983المرسلة إلى سيد كريم مسؤول المركز الرابع والتي وقعت بأيدينا، حيث نصت على التالي: "أنت تعرف كم أحب هؤلاء (ويقصد الشيوعيين وأنصار جبهة جود) أنت تعرف رأيي، أنا لست من مؤيدي المعارك المحدودة طويلة الأمد من دون برنامج لتصفية مباغتة وإنهاء المعارك في وقت قصير. لقد تكلمت بواسطة اللاسلكي مع علي وبقية الإخوان وسألتهم هل بإمكاننا تصفيتهم خلال بضعة أيام وببضعة معارك؟". هذه الرسالة تفضح ما كانت قيادة أوك تضمره وتخطط له.

  • هل يحتاج الامر الى أن اشرح بالتفصيل دور المخابرات العراقية في اشعال فتيل اقتتال الاخوة وادامته؟

 هنا ارجعك إلى كتاب نو شيروان "پەنجەکان یەکتری ئەشکێنن، دیوی ناوەوەی روداوەکانی کوردستانی عیراق 1979 – 1983" (الأصابع تكسر بعضها) الذي يورد فيه برقيات أجهزة المخابرات العراقية، ومنها البرقية التي نصت إحدى فقراتها على التالي: "زودنا أحد المتعاونين برمانتين يدويتين وكلفناه بضرب مجموعة من المخربين الشيوعيين في قرية مَلكان – قاطع خليفان بضمنهم آمر الفوج نجم الدين).

  • ماذا يسمي الدكتور معصوم دس أحد العناصر الموالين له في قوات البيشمركه التابعة للحزب الشيوعي، أواسط عام ١٩٨١، في فصيل الدوشكا الذي كان أحد مواقع حماية المركز القيادي للحزب الشيوعي العراقي في نوزنك؟ فقد تم رصده والتحقيق معه، فاعترف بانه ينقل معلومات عن الحزب الشيوعي ومواقعه العسكرية الى الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان هذا في فترة يفترض فيها أن العلاقة كانت جيدة جدا ولا شائبة فيها!
  • هل غابت عن ذاكرة السيد معصوم جهود الحزب الشيوعي العراقي حين لعب دور الوسيط، وتم تبادل الرسائل والبرقيات بين قيادة الحزب الشيوعي العراقي وقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني في المدة التي سبقت القتال في أربيل والقتال في بشتاشان؟ حيث قامت قيادة الحزب بجهود الوساطة بين قادة الاتحاد وقيادات الأحزاب الكردستانية الأخرى، فكيف يقوم الوسيط بقتل أعضاء من يتوسط لهم؟

نعم، حاولت بعض الأطراف جر الحزب إلى المناوشات التي كانت تقع بين الاطراف المذكورة، ولكن لم يكن مبررا ان نقع في فخ ذلك القتال غير المجدي والعبثي، الذي لا يصب في اتجاه شعارنا الرئيس آنذاك، وهو اسقاط النظام الدكتاتوري واحلال البديل الديمقراطي، وتركيزنا على هذه المهمة. وكان عندنا من الوعي ما يحول دون اشتراكنا في معارك جانبية، تؤخرنا وتلحق بنا خسائر سياسية ومادية ومعنوية وبشرية.

لقد سمعنا غرائب من التبريرات التي أطلقها قادة اوك، لكننا لم نسمع طوال السنوات التي مرت على تنفيذ الجريمة حتى الآن مثل هذا الادعاء. فقد صدرت بيانات من(كومله) وهو تنظيم متطرف وجناح ضمن تركيبة الاتحاد الوطني الكردستاني، ادعى تبني الماركسية حين كانت موجتها آنذاك عالية و(سوقها) رائجا، ادعى فيها ان سبب الهجوم على بشتاشان هو دفاعهم عن نقاوة الماركسية، ضد التحريفيين! وكأن أعضاء قيادة أوك حراس للماركسية، ويا لها من جهالة، في وقت تثقف فيه من ادعى الماركسية منهم بمؤلفات الشيوعيين العراقيين وترجماتهم للماركسية. فيما كان التبرير الآخر هو الدفاع عن الثورة الكردية، وكذلك ضمان وحدة قيادة الشعب الكردي!

لا أجيء بجديد هنا حينما أبيّن أن الحزب الشيوعي العراقي كان يشدد آنذاك على تركيز الجهود على مقارعة الدكتاتورية، والعمل من اجل وحدة قوى المعارضة. لهذا نشط لوقف اقتتال الإخوة الذي كان دائرا بين الأحزاب الكردستانية، وقد بذل جهودا حثيثة لحل الخلافات بينهم.

وإذ لا يتسع المجال هنا لذكر وقائع عديدة تعكس هذا الدور المشهود، نكتفي بذكر دوره في حماية وتأمين سلامة ( نو شيروان) بعد أن أسرته قوات الحزب الاشتراكي الكردستاني، وفي الإسهام في اطلاق سراحه، ومنع العديد من الصدامات التي كانت على وشك الوقوع بين القوى الكردستانية، والصراعات التي يصعب فهم أسبابها دون معرفة القضية الكردية وتاريخ الثورات الكردية والبيئة السياسية في كردستان وطبيعة الأحزاب الكردستانية واتجاهاتها. وقد تحول الصراع بينها في فترات غير قليلة إلى صراع دموي، وصفحات قتال مدانة وغير مبررة  ذهب ضحيتها الآلاف من الطرفين وامتد إلى أطراف أخرى، كما لم يسلم منها المدنيون الآمنون. وكان ذلك منذ الانشقاق الذي وقع عام ١٩٦٦ بين جناحي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكان مفتتح حمامات دم داخل الحركة الكردية، ومدخلا للتنازع المسلح، ومقدمة لصراع التصفيات وتغيير الولاءات الإقليمية، وتبديل المواقف من السلطة الحاكمة في بغداد. هذا إلى جانب ما حدث إبان الثمانينات من مناوشات ومعارك محدودة ونصب كمائن، ومن تضييق على الطرف الآخر وتصفيات متبادلة وصولا إلى معركة بشتاشان. ثم اندلع صراع عسكري بين الحزبين الرئيسيين في أواسط التسعينات، كان الأعنف والاقوى، حيث دخل الطرفان في مواجهة عسكرية قاسية بعد فشل اول حكومة محاصصة عرفت بحكومة (فيفتي فيفتي) أي تقاسم السلطة مناصفة بينهما في الحكومة التي تشكلت في بدايات تسعينات القرن الماضي، وكان دافعه الأساس هو السطوة والنفوذ والتفرد. وهي نفسها السمات والنزعات السلبية التي تتصف بها أحزاب السلطة اليوم، والتي ابتلي العراق بها وامتدت بآثارها المدمرة إلى بنية النظام بعد التغيير، واستمرت حتى اليوم معتمدةً المحاصصة والفساد، وانتجت الفقر والتهميش، ولم تتمكن من إحلال الاستقرار وبناء السلام، بل هددت وتهدد الأمن والتعايش.

ان التبريرات لا تشفع لمن يطلقها، على العكس من ذلك تحاكم مصداقيته، وان الأنسب هو على الأقل الاعتذار عن تلك الجريمة، وقبلها الاعتراف بالحقيقة التاريخية الكاملة.

عرض مقالات: