تحتل ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 صفحة مضيئة من تاريخ العراق الحديث، وتشكل مكانة بارزة في كفاح شعبنا من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.

جاء هذا الحدث الثوري بعد تحرك قطعات من الجيش بقيادة تنظيم الضباط الأحرار وسيطرتها على المواقع المهمة في العاصمة وبمعرفة أحزاب جبهة الاتحاد الوطني، وقد توج هذا التحرك بخروج الجماهير إلى الشوارع فور الإعلان عن نجاحه تعبيراً عن تضامنها وفرحتها بهذا الحدث الذي قل نظيره في العالم من حيث التلازم ما بين الإعلان عن نجاح الجيش في الاستيلاء على المراكز المهمة في البلاد والتفاف الجماهير حوله ليتحول منذ يومه الأول إلى ثورة ظافرة استطاعت إزاحة العهد الملكي ورموزه وإعلان قيام النظام الجمهوري ليغير بذلك  من المسار السياسي للعراق وعموم المنطقة.

 كُتب الكثير من الكتب والرسائل العلمية والبحوث والمقالات حول ثورة الربع عشر من تموز ومن منطلقات وجوانب متعددة، وقد تزايدت عدد الكتابات التي تنتقص من قيمة ثورة 14 تموز بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003،  وقد اشترك فيها مع شديد الأسف قسم ممن كانوا محسوبين عليها، ويعتبرون ما حدث هو مجرد انقلاب عسكري وليس بثورة ويحٌملون الكثير من مساوئ ما جرى للعراق  بعد ذلك بسببها، وكان الأجدى أن يبذلوا العناء والتمحيص بالمزيد من الوقائع والمجريات كل منها، لوجدوا أن بعض القوى السياسية المدعومة من الدول الإقليمية والدولية، تتحمل المسؤولية الكبيرة، حيث أنها ناصبت العداء الثورة  منذ أيامها الأولى وقامت بالمستحيل من أجل وأد الثورة وإجهاض مسارها وفي المقدمة منها  حزب البعث والقوى القومية التي قامت بانقلابها المشؤوم في 8 شباط 1963.

 فكل حدث تاريخي في حياة الشعوب تتمخض عنه احتمالات متعددة ولكل واحد منها مبررات للنجاح والفشل، لكن يبقى الحدث يشكل انعطافة نوعية في المجتمع بغض النظر عن المآل التي تمخض عنه.

ماذا يعني كل من الانقلاب والثورة:

ومن اجل فهم معنى مصطلح الانقلاب العسكري وما يميزه عن الثورة وتوضيح الفرق بينهما ومتى يكون الانقلاب مجرد تبديل في شخوص النظام وكذلك الانقلاب المؤدي إلى الثورة، فلابد ان نذهب إلى بعض القواميس لغرض استجلاء المدلول العلمي لكل منهما، دون الركون إلى المواقف العاطفية المسبقة.

فقد عرف قاموس اوكسفورد الموجز لعلم الاجتماع: الانقلاب العسكري ( بأنه استيلاء عنيف وفوري على سلطة الدولة بواسطة القوات المسلحة غالبا) فقد اختصر هذا التعريف الانقلاب بعمليتي استخدام العنف من قبل الجيش ، والاستيلاء على سلطة الدولة ، دون إي إضافات أخرى، أما الموسوعة البريطانية فقد توسعت في تعريف المصطلح (بأنه الإطاحة الفجائية بحكومة قائمة من جانب فرد أو مجموعة صغيرة، عادة بواسطة عنف محدود وأحيانا بلا عنف على الإطلاق، ويسفر الانقلاب عادة عن استبدال سريع للشخصية الرئيسة الحاكمة بخلاف ما يحدث في الثورة. ولا يؤدي إلى تغييرات في السياسات الاقتصادية والاجتماعية)، وقد جاء التوسع في التعريف من خلال التمييز ما بين الانقلاب والثورة حيث اقتصر الانقلاب على استبدال الشخصية الرئيسة دون طاقم الحكم اي التركيز على تغيير الشخصية الرئيسة في النظام من دون الطبقة التي يمثلها، وهذا ما تم في الانقلاب الذي قام به الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي عام 1936 وكذلك ما قام به الجيش في اليونان عام 1967 وفي تركيا عام 1980، وفي هذه الانقلابات لم يتم اي تغيير في النظام السياسي والاقتصادي ودون اي مساس بالسياسة العامة المعتمدة في الدولة .

إما الثورة فهي منحى أخر عن الانقلاب فقد عرفتها موسوعة الهلال الاشتراكية بأنها (تؤدي إلى تغيير التكوين الطبقي للمجتمع، وتعديل إشكال الدولة، كما أنها تلغي علاقات الإنتاج القديمة لتحل محلها علاقات جديدة، وتُحدث تغييرا في الظروف الاجتماعية، وفي مؤسسات الناس العقائدية، وحياتهم الفكرية). أي أن الثورة تُغير من طبيعة النظام الطبقية وهذا هو المهم وهو ما قامت به الثورة الفرنسية في 14 تموز 1789 عندما أسقطت الطبقة البرجوازية بالتحالف مع العمال النظام الملكي وجردت طبقة النبلاء والإقطاع من السلطة السياسية، وكذلك عندما قام العمال والفلاحون الروس في 7 تشرين الثاني عام 1917 بالثورة والاستيلاء على السلطة وإسقاط الحكومة البرجوازية.

الثورة في العراق

منذ أول يوم من نجاح الجيش في السيطرة على المواقع المهمة في البلاد تم الإعلان عن قيام النظام الجمهوري وإسقاط النظام الملكي وهي سابقة لم يجرؤ اي تحرك للجيش أن يقوم بها، فقد انتظر تنظيم الضباط الأحرار مفجر ثورة 23 تموز 1952 في مصر حتى 18 تموز 1953 أي ما يقارب السنة ليعلن عن إلغاء النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري. أما الإعلان عن قيام الجمهورية في العراق هو وفي نفس يوم تحرك الجيش، وهذا أحد معالم قيام الثورة.

لقد قامت ثورة 14 تموز بإسقاط الحكم الملكي المدعوم من طبقة الإقطاع والملاكين الكبار وطبقة الكومبرادور، حيث كان 3 في المائة من مجموع مالكي الأراضي الزراعية يملكون ثلثي الأراضي وثمانية من هؤلاء لكل واحد منهم أكثر من (100000) مائة ألف دونم، ولهذا أصدرت الثورة قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي استطاع أن يقلص من حيازة الإقطاعيين للأراضي الزراعية ويوزعها على الفلاحين لكي يحد من القاعدة الاقتصادية لتلك الطبقات وليوسع من القاعدة الاجتماعية للثورة.

إن تنظيم الضباط الأحرار يعبر عن تطلعات الطبقة البرجوازية الوطنية والتي تمثلت من خلال تبنيها القضايا الوطنية قالبة سياسية النظام الملكي الخارجية، رأسا على عقب، التي ربطت العراق بالمشاريع الاستعمارية فقد تبنت سياسة عدم الانحياز وألغت كل المعاهدات الاستعمارية  التي أخلت بالاستقلال الوطني وسيادته وأخرجت العراق من حلف بغداد  وحررت الاقتصاد العراقي وعملته من الكتلة الإسترلينية وحررت 99.5 من الأراضي العراقية من سيطرة الشركات النفطية الاحتكارية بعد إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، وعقد الاتفاقيات من اجل بناء مؤسسات صناعية وطنية، وأطلقت الثورة وبالأخص في السنة الأولى الحريات العامة والسماح لعمل الأحزاب السياسية  وتشكيل النقابات والجمعيات والاتحادات، فهذه المؤسسات ساهمت في جر الآلاف من جماهير الشعب إلى معترك العمل السياسي والمهني المنظم، وأصدرت قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 و يعتبر من أفضل القوانين المتحضرة في المنطقة العربية حتى ألان من خلال تنظيمه العلاقات العائلية.

وقد لخص التقييم الصادر عن الكونفرنس الثالث للحزب الشيوعي العراقي لسنة 1967 عن ثورة تموز بالآتي: بأنها ثورة وطنية ديمقراطية من حيث محتواها، السياسي والاجتماعي ومن حيث القوى المشتركة فيها ولا يمكن فهم أسباب اندلاع ونجاح الثورة بتلك السرعة من دون الحسبان التام للنضالات الشعبية التي سبقتها، فالنضالات الجماهيرية الوطنية والطبقية في المدينة والريف، والوعي الثوري الذي اكتسبته الجماهير عبر عشرات السنين، والعزلة التي كان يعانيها النظام الملكي العميل، كل ذلك يفسر سر تحول الانقلاب العسكري في 14 تموز ( زحف القطعات العسكرية على بعض النقاط الإستراتيجية في بغداد) كرأس رمح، إلى ثورة شعبية حقيقية صنعتها الملايين

وقد أكد ذلك بقوة الباحث الشهير في التاريخ العراقي حنا بطاطو عندما تساءل: "هل ترقى أحداث 14 تموز إلى مستوى الثورة أم أنها مجرد انقلاب؟ ويجيب قائلاَ: "والواقع أن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة، يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف... والواقع إن 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيير في الحكم. فهو لم يدمر الملَكية أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية فحسب، بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ ملاكي الأراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعياً موقع العمال المدينيين والشرائح الوسطى والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لانتقال الملكية من ناحية ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى.

ومن كل ذلك يتضح أن الحدث كان في البدء تحركا للقوات المسلحة بهدف تغيير النظام برمته وليس بشخص رئيس الدولة وهذه الحركة هي امتداد لتاريخ نضالي وعبر محطات متواصلة من الكفاح منذ تشكيل الدولة العراقية، وهذا ما يفسر خروج الآلاف من الجماهير للشوارع مؤيدة لها وما قامت به السلطة الجديدة من إجراءات ومواقف هو الذي أسبغ عليها صفة الثورة لما قامت به من تغييرات في طبيعة الطابع الطبقي للسلطة.

بغداد

12/6/2019

عرض مقالات: