منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية عام 1967، حكمتها استنادًا إلى الأوامر العسكرية التي صدرت في تلك الأيام الأولى. وبموجب تلك الأوامر، جرد الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين من الحمايات الأساسية للحقوق المدنية، واعتقل الصحفيين الفلسطينيين والناشطين وغيرَهم لتعبيرهم، ونشاطهم، وانتماءاتهم السياسية المناهضة للاحتلال.

آلاف الفلسطينيين اعتقلوا ولوحقوا واستهدفوا من قبل قوات الاحتلال لا لسبب الا لقولهم كلمة حق وتعبيرهم عن رأيهم بما يتمنوه لشعبهم لأبنائهم ولأنفسهم، للانعتاق من احتلال جائر يجثم على صدورهم ورقابهم ويحاول النيل من ارادتهم وعزيمتهم وهزمهم بكل الوسائل. لعل أكثر الوسائل وأهم الممارسات التي يقوم بها الاحتلال الاسرائيلي تعتمد على سياسة تكميم الأفواه وحبس الأنفاس، لأي فلسطيني تسول له نفسه قول "لا للاحتلال" وتعرية ممارساته، وتهدف تلك السياسة لإنتاج فلسطينيين، مطأطئي رؤوس، مذعنين تسهل السيطرة عليهم وضبطهم وان لم يجد الردع والترهيب، يتحولون إلى أهداف حية، أنفاسهم باتت معدودة وبقبضة جندي احتلال لعين ينتظر تلقي الأمر أو أن تتاح له الفرصة لتفريغ رصاص حقده في صدورهم لإعادة الاعتبار لهزيمة مشروعه وعدم ارتداع الفلسطيني من جبروته.

لا أعرف نزار بنات شخصيًا ولم ألتقيه يومًا، عرفته كما عرفه معظم الناس من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وفيديوهاته التي أفرغ فيها ما بجعبته من رأي وما يقال بمواضيع شتى. نزار بنات بدا لي شخصًا رزينًا، مثقفًا وقلبه على البلد والناس، نزار بنات لم يطل على الناس من منصات المؤتمرات ولا عبر قنوات التلفزة، بل من بيته المتواضع الذي يشبه بيوت معظم الناس أو من مكان عمله ومعدات عمله التي يكسب منها قوته بين يديه، وبين نفثة وأخرى لدخان سيجارته أفرغ ما يلوج برأسه ويؤرقه كلمات بلا مواربة وبلا تجميل.

نزار بنات لم يقدم للمشاهدين وثائق مسربة على غرار جوليان اسانغ ووثائق ويكليكس، نزار بنات لم يكن لسانًا لأطراف من داخل المنظومة التي تعمل على تصحيح مسارها من خلال الكشف عن ممارسات الفساد والفاسدين مدعمة بوثائق دامغة تسرب الى صحفي حر ومستقل وشجاع كجوليان اسانغ علها تردع الفاسدين أو المفسدين أو توقفهم عند حدهم على أقل حد. نزار بنات لم يكن أليكيس نافالني، الذي يتحدى استبداد رئيس قوي وقادر كبوتين ويسعى لاستبداله او لربما يقول البعض انه يعمل على ذلك مدعومًا من جهات خارجية. نزار بنات كان صاحب رأي حر ومستقل فقط لا غير. نزار بنات وبممارساته اليومية، كان من تلك الفئة بيننا والتي تحاول ان تضيق الفجوة ما بين ما تقول وما تفعل. لا تنتطح عنزتان ان أقوال نزار بنات أصابت وترًا حساسًا ولامست شعور الناس وقلقها حول نواحٍ عدة واهمها انتشار الفساد ومظاهره واخطاره على حاضر ومستقبل ابناء جلدته، سقف نزار بنات وان اعتبره البعض مرتفعًا الا ان التقارير التي تنشر وتكتب والاستطلاعات تشير الى حقيقتها وفي كثير من الأحيان تعج بمعلومات أكثر وأخطر مما قاله نزار بنات، يكفي مراجعة تقارير مركز "أمان" في السنوات الاخيرة حيث تشير مسوحها المتكررة ان ما يزيد عن 90% من الناس ترى بظاهرة الفساد، المعيق الاول أمام التقدم والتنمية وإنهاء الانقسام السياسي.

نزار بنات وكثيرون ممن سبقوه هم فخر لكل شعب يطمح أن يعيش ابناؤه متصلين بواقعهم، مهتمين وملتفتين الى ما العمل؟ ويرون بالمصلحة العامة همهم الأول والأخير فإن صلحت، صلحت أحوال الناس. لمنصة نزار وفيديوهاته لم يكن ممولون، مساعدون أو خبراء تنمية بشرية ومستشارون. نزار هو الابن لقائمة تطول ممن سبقوه من أصحاب الكلمة الحرة الفلسطينية والعربية، هو بمثابة الأب والأخ لعهد التميمي، لمحمد ومنى الكرد، وباسل الأعرج وعشرات ومئات من الصبايا والشباب الذين لا تتسع صفحات جريدة لنشر أسمائهم وألوف أخرى لم تولد بعد من ناشطين وأصحاب كلمة حق يقولونها دون ان يخشوا شيئًا. نزار ومن سبقوه على الدرب أسسوا وبنوا وطوروا أدوات الشعب الفلسطيني البسيطة والبدائية التي تحدت وصمدت وتفوقت على الاحتلال، إسهام المدرسة التي انتمى اليها نزار بنات كإسهام حجارة أطفال فلسطين التي واجهت دبابات وترسانات الاحتلال العسكرية، كلماته وكلمات من انتمى الى ذات المدرسة تفوقت على ماكينة الاعلام المجند والمدجج بالمال السياسي الاسرائيلي. في الهبة الأخيرة بالقدس والعدوان الأخير على غزة، انبرى مئات الناشطين الفلسطينيين المستقلين، المنتمين لقضيتهم ولوطنهم وحلقوا بالفضاء عاليًا وتغلبوا على الدعاية الاسرائيلية وأعوانها بالعالم من خلال صدق كلماتهم، صدق تعابيرهم وأسلوبهم غير المفذلك ورسالتهم الواضحة بابتغائهم الحرية والمتسع لالتقاط انفاسهم.

كاتم الصوت كان ولا زال حالة ترافق الثورة والنضال والعمل الفلسطيني من أجل التحرر، للأسف نال كاتم الصوت من قبل نزار بنات شهداء كلمة فلسطينيين كثر، نزار بنات وأقرانه عرفوا تمام المعرفة ان حياتهم ممكن ان تصبح على المحك. من لم يخش الاحتلال الاسرائيلي وعملائه وأعوانه لا يمكن أن يخشى بعدها اي شيء اخر بالدنيا، وكما لم يخش ناجي العلي اعلان نعيه، وكيف كان صدى كلماته المعدودة ورسوماته اعلى من صوت كل من أراد لها الصمت، فإن شبح ريشته لايزال يطل من لحده ويعلن انتصار التمرد الفلسطيني اليومي ويردد "لا لكاتم الصوت".

ربما لم يتفق البعض او العديد مع كل ما قاله نزار بنات، ربما كلمات وأقوال نزار بنات أزعجت مسؤولاً او قائدًا أو سببت حرجًا وضيقًا لفصيل وطني، قدم ولا يزال يقدم ابناؤه ارواحهم قرابين على مذبح التحرر الفلسطيني. لكن صدورنا لا تتسع لكلمة ممن لا يتفق معنا ونتخيل ان بالنيل من جسده يفضي الى الانتهاء من الارق والمشكلة واسبابها. كيف لا يمكن ان تتوفر مساحة لنزار بنات وكلماته كما تتوفر لمن يؤدون عبر الاثير أو الشاشات العربية ادوار تمثيلية عرضة للنقد الفني والتهجم عليها ممن لا يستسيغون فحواها او اداء نجومها؟ كيف لا يمكن ان تتوفر لنزار بنات وأقرانه مساحة كالتي توفرت لنجوم "وطن على وتر" واطلالالتهم في رمضان الأخير عبر احدى الفضائيات الاردنية والتي كانت عرضة للنقد باسم الذوق العامة فرد عليهم نجم المسلسل " الي مش عاجبه ما يحضر". هل من المعقول ان فنانًا تسلط نحوه أسهم النقد حول ادائه وفحوى نشاطاته الفنية وتصنيفها من قبل نقاد عدة "بالهابطة والسوقية" يترك الحرية للمشاهد والمتلقي ان يختار وان يقرر بين ما يعرضه وبين رأي النقاد فيه، ولكن لا يمكن لصاحب رأي بمواضيع السياسة والمجتمع ان يحظى بمثلها؟

لسنوات وعقود كيل الثناء للفلسطيني لقدرته تحدي كل سلطات القمع وسياسات الترهيب وتكميم الأفواه الاسرائيلية، وعدم خشيته ومجاهرته برأيه عبر الأثير والاعلام والكتابة بما تجاوز معظم السقوف المتاحة للعديد من أقرانه من بلدان عربية اخرى، هل المطلوب الآن من الفلسطيني ان يحتذي بمن لا يجرؤون على قول الحق لا بحضرة ولا بغياب سلطان جائر؟ ألم يقل واحد منا "هرمنا"!

عرض مقالات: