تنطوي تجربة المعركة الانتخابية البرلمانية الأخيرة التي خاضها تحالف " سائرون " في العراق ، وبضمنه الحزب الشيوعي ، على دلالات ودروس سياسية على درجة من الأهمية ، ليس على الصعيد العراقي فحسب بل وعلى صعيد الأقطار العربية كافة، وبخاصة تلك التي تتشابه مع العراق في ظروفها السياسية والاجتماعية، كبعض الاقطار الخليجية؛ فبعد 15 عاماً من تكريس عُرف المحاصصة الطائفية المقيت والذي وفّر أفضل بيئة مناسبة لتفريخ وانتعاش الفساد والفاسدون والمفسدون ، تحت حماية ومظلة المحاصصة ذاتها، يمكن القول ان هذا التحالف المذكور استطاع لأول مرة أن يقلب الطاولة على الساسة المتنفذين المنتفعين سياسياً أو و فسادياً من عُرف المحاصصة وأن يخلط الأوراق خلطاً أربك حساباتهم بشكل لا تخطئه العين . ولعل تجربة هذا التحالف هي أول تجربة انتخابية عربية تتم في ظل نظام سياسي ديمقراطي تعددي ويكون عمود خيمته إحدى القوى الإسلامية ذات الوزن الجماهيري ممثلاً في حزب الاستقامة، المدعوم من تيار السيد مقتدى الصدر، وتشترك فيه قوى وأحزاب مدنية وديمقراطية مختلفة، ومن ضمنها على وجه الخصوص "الحزب الشيوعي "، ومن ثم يخوض الانتخابات وفق برنامج محدد واضح المعالم من المشتركات ، والذي بفضله أحتلت هذه الكتلة الانتخابية المركز الأول في نتائج الانتخابات ، وأصبح تحالف " سائرون " رقماً صعباً يُحسب لها من الآن ألف حساب ، سواءً تم التوافق معه في تشكيل الوزارة المنتظرة كما هو مأمول ، أم لم يتم لا سمح الله .

وبوجه من الوجوه يمكننا أن نعتبر كتلة " سائرون " بمثابة نواة قابلة للتطوير والبناء عليها للوصول إلى كتلة أكبر"  الكتلة التاريخية " كرافعة سياسية لانتشال الشعب والحياة السياسية من مأزق تاريخي يتمظهر على شتى الأصعدة في ظل انسداد سياسي وأوضاع مأزومة وشديدة التعقيد تمر بها البلاد.

ويمكننا أن نجمل أهم الدلالات والدروس المتمخضة عن تجربة تحالف " سائرون " في الانتخابات التشريعية الاخيرة فيما يلي :

أولاً : أثبتت نتائج الانتخابات تطوراً، وإن كان نسبياً في وعي شريحة عريضة من الناخبين العراقيين ، وبخاصة المهمشون من ذوي الطبقات الفقيرة والمهمشة والوسطى والناقمون على " الطبقة " الفاسدة الحديثة النعمة بفضل بحبوحة  الفساد ، بدءاً من المتنفذين في أعلى مؤسسات الدولة إلى أدناها ، لاسيما وأن محاكمة  رموز الفساد كما ينبغي لا تسقط بالتقادم ومثلها ، محاكمة أعلى القوى والجهات المتنفذة في الحكومة المسؤولة عن سقوط الموصل والمرتبطة بشكل أو بآخر ببعض أجنحة تلك الرموز الفاسدة . ذلك بأن التفريط  في صيانة وحماية  حدود الوطن هي من المسائل الجسيمة التي لا يتم الاستخفاف بها لدى كل الدول والامم التي تعتز بكرامتها الوطنية من خلال سلطتها القضائية المحايدة والنزيهة.  وما حدث  في الموصل من خيانة لا يُساءل عنه الضالعون فيها عسكرياً وأمنياً فحسب بل أعلى مركز سياسي يشغله مسؤول في السلطة التنفيذية لسوء الاختيار والثقة فيمن أئتمن عليهم حماية الحدود وعدم متابعته الدقيقة لادائهم واختبار ووضع وطنيتهم المفترضة على الدوام تحت مجهر المراقبة الأمر الذي أفضى إلى سقوط المدينة في حزيران 2014  أمام جحافل "داعش " بكُل سهولة ويُسر والذي سرعان ما مكنها من احتلال مناطق ومساحات شاسعة من العراق عاثت فيها فساداً وتنكيلاً وقتلاً بالعباد وهو ما استنزف موارد البلاد البشرية والطبيعية والعمرانية استنزافاً هائلاً فوق استنزافه بفسادهم . وهذا ما يفسر الذعر الذي أصاب هذه القوى من المكاسب الانتخابية التي حققها تحالف " سائرون ".

ثانياً : إن مجرد تبني تيار إسلامي سياسي ، ممثلاً في "التيار الصدري "، مبدأ فتح حوار مع الآخر المختلف مع أيديولوجيته  ، كالحزب "الشيوعي " ، والذي لطالما اقترن حمله هذا الإسم تاريخياً في المنطقة العربية لدى قوى وأحزاب الاسلام السياسي في عالمنا العربي بالكفر،  إما جهلاً بجوهر مبادئه وأفكاره النضالية الأساسية وإما تشويهاً متعمداً لها ، ليُعد ذلك في حد ذاته تطوراً ونقطة تحول هامة في عقلية وفكر هذا التيار . ويعكس أيضاً مدى النضج السياسي الذي قطعه  ؛ ومن ثم يمكن القول أن هذا التيار بات يدرك عن وعي ومعرفة مسبقين رسالة ومبادئ الحزب الشيوعي وتاريخه النضالي العريق والتضحيات الكبيرة التي قدمها لكادحي ومستضعفي شعبه على مدى ما يقرب من قرن منذ تأسيسه  قبل نحو 85 عاماً بصرف النظر عن  حجم خلافه معه في هذا الجانب أو ذاك من فكره ومواقفه السياسية ، وهذا على خلاف ما تروّج  له وتشيعه تقليدياً معظم قوى الإسلام السياسي الاخرى عنه والتي تلتقي مع التيار الصدري في نفس الفكر الواحد لكنها تختزل فكر ورسالة الحزب الشيوعي بشكل مسطح ومشوّه وكاذب في مجرد نشر " الالحاد ". 

ثالثاً : لا يقلل بأي حال من الأحوال من المكاسب المهمة التي حققها الحزب الشيوعي في إطار تحالف " سائرون " بعدد المقاعد التي فاز بها أو بنسبة المشاركين  في الانتخابات - رغم ما شاب العملية في بعض الدوائر التي نزل فيها مرشحوه من تجاوزات  وشبهات في الفرز  كما تحاول بعض الجهات السياسية من مختلف الاتجاهات تصوير ذلك ، بقصد أو لسوء تقدير ، فالحزب الشيوعي لم يخض الانتخابات وهو يتوقع فوز كل مرشحيه ، بل لما توفره له الحملات الانتخابية من فرصة استثنائية للالتحام بالجماهير سياسياً بشكل مباشر وتوعيتها سياسيا وديمقراطياً بأهمية الانتخابات وعدم اليأس من المشاركة السياسية لضررها على مصالح الناس واستفادة رموز الفساد والاستبداد والاستحواذ من سلبيتها . كما ان نسبة الانتخابات بوجه عام جيدة كونها تحدث في بلد يفتقد لتقاليد وخبرة ديمقراطية منذ 60 عاماً بالتمام والكمال منذ ثورة ثموز 1958 ويمر بظروف استثنائية لم يتعاف من آثار الحروب التي فرضت عليه والصراعات والتناقضات الطائفية واستمرار الفساد واستشرائه في ظل حكومات متعاقبة كل ذلك ولّد حالة نفسية سلبية في وجدان العراقيين وبخاصة المهمشون والفقراء  تجاه أي أمل في التغيير والإصلاح من خلال الانتخابات فالعملية السياسية تحت قبة البرلمان . ومن يمكن فهم الحملات الاعلامية الديماغوجية المُغرضة التي خاب أملها في التعويل على سلبية الناخبين المطلقة أو تشويش قناعاتهم وانطلقت ضد تحالف " سائرون " بوجه عام وضد مقتدى الصدر والحزب الشيوعي  بشكل خاص والتي اشتدت وأستشرست بصورة لافتة فور ظهور النتائج والتي تقف وراءها القوى التي تمقت نتائج الاحتكام لصناديق الاقتراع واحترام إرادة الناخبين . ولا يمكن فهم العملية الارهابية الأخيرة المشبوهة على مقر الحزب إلا على خلفية هذه الاعتبارات السياسية كائن من يكون الفاعل .

  رابعاً : مع أن الحزب الشيوعي لم يفز سوى بمقعدين ضمن تحالف " سائرون " وهو بهذا لا يبز القوى السياسية الاسلامية الكبرى المستأثرة بالسلطة لدورات متعاقبة إلا ان حالة الهلع ، المعلن منها والمضمر على السواء  ، بدت واضحة من قِبل القوى المعادية له والتي لاتكن  ارتياحاً لتمتعه بالمشروعية السياسية والدستورية ومن ثم ضيقها ذرعاً من دوره السياسي والفكري النوعي وبضمنها مبادراته المتميزة الرائدة سواء داخل " سائرون " أم على عموم الساحة السياسية وهو دور يستند بلا شك إلى خبرته النضالية الطويلة .

كما وينطوي فوز قائد الحزب السكرتير العام رائد فهمي على مغزى خاص ، إذ يمكن القول أن فوزه يشكل دلالة رمزية ذات مغزى باعتباره تصويتاً جماهيرياً للحزب ، سيما وأن الانشغالات التنظيمية  اليومية المتعددة و المتشعبة لمن  يتولون هذا المنصب في الاحزاب اليسارية المناضلة لا تترك لهم  وقتاً كافياً للتواجد بين الجماهير. ومن المصادفات اللافتة أيضاً ما يكتسبه  فوز الحزب من نكهة مميزة اخرى لجهة كون الفائز الثاني هو إمرأة ، هيفاء الأمين ، ليعبّر الفوز رمزياً عن الاهتمام الكبير الذي يوليه ومازال يوليه الحزب في نضالاته في الدفاع عن حقوق المرأة على مختلف الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية . كما كان لقوة الاداء السياسي للخطاب الدعائي في الحملة الانتخابية التي تميزت به مرشحات الحزب تأثيره الكبير ميدانياً وفي وسائل التواصل الاجتماعي بين الجماهير عامةً والنساء خاصةً ولا سيما داخل المدن المحافظة التي تشكل تقليدياً معاقل القوى الدينية المعادية لليسار ( سُهاد الخطيب مرشحة الحزب في النجف على سبيل المثال لا الحصر ) . 

واخيراً فإن الانتصار الكبير الذي حققه تحالف  " سائرون " مطلوب من قواه  في الظروف الراهنة تعزيز اليقظة السياسية للتصدي مجتمعة لمآرب القوى المتضررة من انتصاره وتفويت كل أشكال الدس لدق الأسافين بين أطرافه بغية نسفه من الداخل ، والعمل على تقوية لحمته وتوسيعه وتطويره هيكلياً وتنظيمياً. والعمل المشترك لحماية كل قوه بشتى الوسائل الممكنة  والمشروعة في اطار القانون مع دعم التوجهات في المستقبل القريب ان يحصر حمل السلاح في يد الدولة فقط .   

عرض مقالات: