وصف الخميني في كتابه "ولاية الفقيه" الفرق بين الدستورية الملكية والدستورية الجمهورية وبين الحكومة الإسلامية على النحو التالي:

"هذا هو الاختلاف الأساسي بين الحكم الإسلامي وبين الحكم الدستوري الملكي والجمهوري: إذ أن ممثلي الشعب أو الشاه يعتمدون في مثل هذه الأنظمة على سن القوانين؛ في حين أن السلطة التشريعية وخيار التشريع في الحكم الإسلامي منوط بإرادة الله تعالى. وإن الشريعة الإسلامية المقدسة هي السلطة التشريعية الوحيدة. ولا أحد لديه الحق في التشريع؛ ولا ينفذ أي قانون إلا حكم الشريعة ".

وعلى الرغم من نجاح خطة الإسلاميين مع سبق الإصرار في ثورة عام 1979، إلا أن متطلبات ذلك الوقت أجبرت القادة الدينيين على معارضة العديد من نظرية الخميني عن "الحكومة الإسلامية" ، فإن الكثير من القوانين الحديثة ومن ضمنها قانون مجلس الشورى وقانون إنتخاب رئيس الجمهورية والفصل بين السلطات قد تضمنها دستور البلاد. إلا أن مؤسسة ولاية الفقيه والسلطات العديدة الممنوحة للفقيه المطلق، شلت في الممارسة عمل المؤسسات الحديثة وجعلتها مشروطة بإرادة المرشد الأعلى ( ولي الفقيه المطلق) الذي أطلق عليه "منفذ سياسة الله على الارض".

إن موضوعة "منفذ سياسة الله على الأرض" جعلت من المؤسسات المنتخبة مجرد مؤسسات استعراضية وشكلية ، وهذا ما شهدناها عند  تشكيل المجلس في دورته الحادية عشر وتمثيلية انتخاب رئيس الجمهورية. فباستخدام الوسائل المتاحة لـ"مجلس صيانة الدستور"، تمكن خامنئي من تشكيل برلمان من نواب منتقين تابعين للمرشد كي يتحول المجلس إلى أداة لتكريس سياساته. وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر موافقة المجلس على مادة انسحاب إيران من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية من أجل تخويف الغرب والتي تم تمديدها حتى الآن مرتين دون استشارة المجلس.

إن مخطط الانتخابات الرئاسية المقبلة هو مثال آخرعلى هذا النهج. فقد اتبع خامنئي نموذجه الخاص في الانتخابات الرئاسية، والذي تحقق بمساعدة مجلس صيانة الدستور:

بعد اغتيال رجائي، قررت دائرة من رجال الدين المحيطة بالخميني بقيادة هاشمي رفسنجاني، تعيين أحد المقربين لها في منصب رئاسة الجمهورية. ونظراً لمقتل رجال دين بارزين مثل بهشتي ومطهري وباهنر، وقعت القرعة على علي خامنئي، الذي كان يحظى بدعم كامل من رفسنجاني وتمكن من الفوز بعد موافقة الخميني. وهكذا ، سارع مجلس صيانة الدستور إلى مد يد العون لخامنئي في عملية جرى التخطيط لها، حيث تم استبعاد 42 من أصل 46 من المرشحين، وبقي خامنئي فقط وثلاثة منافسين آخرين أقل وزناً من الناحية السياسية. ونتيجة لذلك، تمكن خامنئي من أن "ينتخب" رئيساً ثالثاً للجمهورية دون أي اعتراض. وفي أثناء هذه "الانتخابات"، وعندما أدلى رفسنجاني بصوته لصالح خامنئي إنبرى قائلاً: "إن هذا تصويت الإمام ورجال الدين والبرلمان".

وتم استخدام نفس الأسلوب في عام 1986، ومن خلال حذف مرشح حركة نهضة الحرية(مهدي بازركان) في الانتخابات، كي يصبح خامنئي بسهولة رئيساً للجمهورية للمرة الثانية. وعلق  مهدي بازركان على عدم أهليته قائلاً: "أن الحكومة رأت أن لدينا أغلبية في الانتخابات، واتخذت هذا القرار ، لذا فإن الانتخابات الرئاسية الإيرانية هي بالكامل مشوهة وأضحت عاملاً من عوامل حرمان الشعب في تقرير مصيره. وتعلن حركة نهضة الحرية إن المشاركة في انتخابات رئاسة الجمهورية ما هي إلاّ التوقيع على وثيقة تضع قيود الأسر في يد الشعب ".

في الانتخابات القادمة، إنغمر الحرس الثوري الإيراني والمجلس في الحملة الانتخابية لتوفير فرص النجاح للشخصية التي تحظى برضى ولي الفقيه دون أي اعتراض.. فمنذ شهر أيار من هذا العام ، منعت مخابرات الحرس الثوري وسائل الإعلام من فضح السجل القضائي لمرشح ولاية الفقيه "رئيسي" ومنع توجيه أي انتقاد لأدائه أثناء توليه رئاسة  المنظومة القضائية في البلاد. وأيد 200 نائباً ترشيح "رئيسي" لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات القادمة. كما استبعد مجلس صيانة الدستور ستة من المرشحين الموالين لولي الفقيه من الذين لا يتمتعتون بأية فرصة لنجاحهم في الانتخابات، كي تتحول أصواتهم لصالح مرشح ولي الفقيه "رئيسي".

وأصبحت "الطبخة" في مجلس صيانة الدستور مالحة للغاية لدرجة أن عضو مجلس صيانة الدستور صادق لاريجاني وصفها بأنها جاءت نتيجة لتدخل قوات الأمن و "لا يمكن الدفاع عنها"، على الرغم من أنه خفف من  لهجته تحت الضغوط التي مورست ضده. كما دعا حجتي كرماني، العضو السابق في "مجلس الخبراء "، خامنئي إلى تعيين "رئيسي" بمنصب رئاسة الجمهورية و"إعفاء الشعب من متاعب المشاركة في انتخابات استعراضية ".

وأيد خامنئي بالكامل قرارات مجلس صيانة الدستور حول عدم آهلية بعض المرشحين في لقائه مع "ممثلي" مجلس الشورى، الأمر الذي واجه الكثير من المعارضة والانتقادات من لدن القوى الموالية للنظام. بل إن الزعيم المستبد حدد ما يجب على المرشحين التحدث عنه في الحملة وما يجب عليهم تجنبه. وشدد على أهمية القضايا السياسية والثقافي ، لكنه حث المرشحين على معالجة القضايا الاقتصادية وتقديم الحلول. كما دعاهم إلى الامتناع عن "خرق الأعراف وتخطي الخطوط الرئيسية للنظام". ويحاول خامنئي من خلال توفير الدعم لـ "رئيسي"، المعين مسبقاً لمنصب رئاسة الجمهورية، أن يتولى هذا المنصب دون أية تحديات.

إن "رئيسي" هو تلميذ خامنئي وأحد أتباعه. ويتميز بميوله الاجتماعية والقانونية المتخلفة. فقد دافع عن الفصل بين الجنسين وبتر أيادي اللصوص. وطالب بالمزيد من الإجراءات لتحويل الجامعات إلى جامعات إسلامية. وهو يدعو إلى المزيد من القيود على الإنترنت لمواجهة "الثقافة الغربية". وكان أحد اعضاء اللجنة التي قررت إعدام مئات السجناء السياسيين في تموز عام 1988، وفي أثناء رئاسته للقضاء عام 2020 فقط، تم إعدام ما يزيد على 200 شخص. وقُتل 35 سجيناً احتجاجاً على ظروف السجن أثناء تفشي فيروس كورونا برصاص مسؤولي السجن في هذا العام، حسب ما أوردته منظمة العفو الدولية. وشهد الإيرانيون هذا العام إعدام نويد أفكاري واختطاف روح الله زم وإعدامه وإعادة إدانة التاشطة نرجس محمدي. وحسب بيانات منظمة " اتحاد من أجل ايران"، إحتضنت السجون الإيرانية حوالي 500 سجيناً سياسياً في إيران حتى منتصف تشرين الأول من العام  الماضي. وخلال السنوات الثلاث التي قضاها "رئيسي" في السلطة القضائية، جرت مذبحة مروعة ضد المواطنين الايرانيين، وإسقاط طائرة أوكرانية، وقتل مشغلي الوقود في سيستان وبلوشستان ، ولم يتم الإعلان عن محاكمة المسؤولين عنه. وتتواصل انتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات السياسية والنقابية والتمييز ضد المرأة والأقليات العرقية والدينية، وتغلغل الفساد المؤسسي في نسيج الحكم الديني.

يؤيد "رئيسي" سياسات خامنئي الاقتصادية ويدعم "محور المقاومة".

يواجه رئيسي في حالة انتخابه رئيساً للجمهورية تحديات دولية. فقد صدرت ضده عقوبات من قبل الولايات المتحدة لانتهاكه حقوق الإنسان، ومن المرجح أن يتم إعاقة وصوله إلى مقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك. وبالإضافة إلى ذلك، يقوم بعض نشطاء المعارضة في الخارج بالتحضير لتوجيه اتهامات جنائية ضده.

ومن الممكن ربط تفويض رئاسة الجمهورية لـ"رئيسي" بمسألة تشخيص خليفة خامنئي. ويعتقد البعض أن المسؤولية التنفيذية (رئاسة الجمهورية)، وبالتنسيق التام والدعم من خامنئي والبرلمان وقوات الأمن، يمكن أن تصبح مقدمة لتولي رئيسي  للمنصب الثالث لولاية الفقيه (بعد الخميني وخامنئي). يعتقد معارضو هذا التوقع أن مشاكل البلاد المختلفة ووجود حكومة موازية وعجز رئيس جمهور لا يتمتع بأية صلاحيات، من شأنها عرقلة حل المشاكل الداخلية والخارجية، مما يؤدي إلى زيادة تدني سمعة الرئيس وتقويض فرصة رئيسي في خلافة خامنئي. وينبغي الانتظار..وهل أن نموذج خامنئي كولي للفقيه سيتكرر في حالة رئيسي؟

في "الخطوة الثانية من الثورة" وتشكيل "الحكومة الإسلامية" ، كانت الانتخابات هي الأداة الوحيدة لتحقيق أهداف الزعيم المستبد في تعيين وكلائه عبر صندوق اقتراع مزيف. لذا فإن مقاطعة الانتخابات المقبلة هي أشبه بزرع بذور نظام ديمقراطي علماني ينقذ البلاد من مستنقع الجمهورية الإسلامية والاعتراف بحق الإيرانيين في تقرير المصير.

عرض مقالات: