يتضمن مفهوم الفقر أحكاما معيارية تتعلق بالهوية الاجتماعية ضمن رؤية ما يجب أن يشكل نظامًا اجتماعيًا عادلًا. في الواقع أن تحديد الهوية الاجتماعية عادة ما يكون مرتبطًا بالسياسات الفعلية ووسائل الدعم الاجتماعي، أنه يقع أيضًا في ميدان الاقتصاد السياسي ويخضع لعلاقات القوة التي تتغلغل فيه. تنطبق هذه النقطة على جميع الإحصاءات الاجتماعية إلى الحد الذي تعتمد فيه على الأصول الاجتماعية والمؤسسية. ومع ذلك، تعتبر إحصاءات الفقر أيديولوجية على وجه الخصوص بالنظر إلى الدور المركزي الذي تلعبه فكرة الفقر في الأيديولوجيات المعاصرة المرتبطة بالتطور الرأسمالي.

    إن عدم تسييس ظاهرة الفقر، سواء من ناحية المفاهيم أو المقاييس نفسها أو من ناحية طريقة توظيفها في مختلف برامج التنمية، يعمل على حجب هذه الطبيعة الأيديولوجية المتأصلة. علاوة على ذلك، فإن محاولات الابتعاد عن الجوانب المالية لا تحل مشكلة عدم التسييس ولكن يمكن القول إنها تزيدها تعقيدا وتعسفا وغموضا. وقد أدى توافق الآراء في مختلف اجندات التنمية العالمية، ولا سيما الأهداف الإنمائية للألفية وأهداف التنمية المستدامة (العائدة للأمم المتحدة)* إلى خنق النقاش السياسي، ومن ثم منح اليد العليا للأصوات الأكثر قوة من الناحية المؤسسية والسياسية ضمن هذه الصراعات السياسية.

    على وجه الخصوص، تم تنظيم مشروع إنشاء إحصاءات الفقر العالمية بطرق مختلفة لإضفاء الشرعية على المرحلة الأخيرة الخبيثة من الرأسمالية التي يشار إليها بشكل مختلف باسم "الليبرالية الجديدة" أو بشكل أكثر تلطيفًا باسم "العولمة". تشير الليبرالية الجديدة نفسها إلى المشروع السياسي لرأسمالية عدم تدخل الدولة. ومع ذلك، فقد امتزجت مع توجهات متزايدة ذات سمات محافظة والتي تكاد تكون فيكتورية بطبيعتها، من حيث أنها تركز على تأديب سلوك الفقراء في كثير من الأحيان، بأسلوب العقاب. في حين أن هذا الدافع  من التدخل ذي السمة العنصرية ليس ليبراليًا بشكل خاص، إلا أنه يتناسب مع ما يعرضه كيلي بوضوح على أنه الطريقة التي اعتمد بها المشروع النيوليبرالي الجديد على سلطة الدولة وتدخلها بدرجات كبيرة. والسبب في ذلك يعود إلى أن المشروع النيوليبرالي كان موجهًا بشكل أساسي نحو حماية حقوق الملكية الخاصة (إنشاءها واستخدامها بحرية، بما في ذلك الأصول المالية). وبالتالي فإنه يتضمن أيضًا سمات محافظة، لا سيما فيما يتعلق بحماية النظام الطبقي السائد على عكس الليبرالية الكلاسيكية التي كانت أكثر ثورية في سعيها إلى تفكيك النظام الأرستقراطي القديم.

     شهدت الفترة النيوليبرالية المعنية تعرض أجزاء كبيرة من جنوب العالم لأزمات عميقة ومتكررة

وتنفيذ برامج التكييف الهيكلي لأكثر من عقدين، إلى أن سمحت ظروف زمن الازدهار منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فصاعدًا ببعض التأجيل لهذه البرامج، وإن كان ذلك ضمن بيئة متغيرة تتسم بحركة رأس المال عبر الوطني بالكامل ووفرة التمويل. هذا هو النظام الجديد الذي تسعى الأيديولوجية السائدة إلى إضفاء الشرعية عليه من خلال سرديات الفقر. إذ جرى استخدام بيانات الفقر بطرق مشكوك فيها في كثير من الأحيان لتعزيز السرديات السائدة لهذا الماضي القريب كواحدة من آليات التحرير التدريجي المؤقت، وبالتالي فإن السياسات التي جاءت معها كانت واحدة من السياسات الناجحة لكن بحذر. في الواقع يمكن القول أن أعدادًا كبيرة من الناس حول العالم لا يشعرون أن هذا هو الحال، لذلك فإن هذا يغذي لديهم ردود الفعل السياسية ضد هذه الرؤية. ومع ذلك، تشير الاتجاهات الأخيرة إلى أن الحركات الشعبوية اليمينية الصاعدة كانت أكثر نجاحًا في التقاط هذا الشعور من اليسار (مع بعض الاستثناءات). لذلك فإن هذا التوجه له تأثير في تعزيز التوجهات المحافظة التي تتماشى بشكل مثير للسخرية مع المشروع النيوليبرالي، على الرغم من أن الكثيرين يزعمون أن هذا يمثل موتا لليبرالية الجديدة.  

    تتمثل المسألة الكبيرة الأخرى أيضا في هذه الفترة بالصعود الدراماتيكي للصين التي تقدم سردًا أيديولوجيًا مختلفًا. في الواقع، يجري تنظيم إحصاءات الفقر في الصين لدعم التنمية الحكومية. علما هناك بعض الجدل بشأن ما إذا كان ينبغي اعتبار الصين ذات توجه نيوليبرالي. لكن لم يكن لذلك تأثير كبير في المزيد من دراسات الاقتصاد السياسي وتأثيراتها على السياسة الاقتصادية الفعلية، حيث لا تعتبر الصين ذات توجه نيوليبرالي بالمعنى التقليدي. ومع ذلك  فقد تم نسج قصة الصين في الخطاب السائد عن الفقر بدرجة كبيرة من خلال التأكيد على تحريرها من اقتصاد ماوي مغلق. علما تتجنب هذه الرواية عمومًا الإرث والسيطرة المستمرة للدولة بدرجات قوية والنزعة التنموية التي تقودها والتي تفسر جزءًا كبيرًا من تجربة الحد من الفقر في البلاد (ومن المفارقات، أن سيطرة الدولة يتم استحضارها عندما يجري انتقاد البلد بسبب التلاعب بالعملة أو التجارة).

        تتعلق المسألة المركزية الأخرى بالتركيز على المقاييس المطلقة المستخدمة في جداول أعمال التنمية العالمية الحالية - بما في ذلك ما يسمى بالمقاييس متعددة الأبعاد - وهو نتاج تحيز السياسة نحو استهداف الفقراء في توفير الخدمات الاجتماعية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العديد من هذه المقاييس قد جرى تصميمها لدعم هذا  الغرض. ومع ذلك، فإن السبب الأكثر دقة هو أن المفاهيم والمقاييس المطلقة ليست مناسبة تمامًا لتعكس قيمة أشكال التدابير الأكثر عالمية. علما يجري تبني أولوية سياسة الانتفاع على حساب المساواة، من خلال معالجة الفقر أولاً بدلاً من معالجة الآثار المؤسسية التي تحدثها هذه النفعية والتي تميل إلى تشجيع الفصل العنصري على حساب التضامن العابر للطبقات.

     في الواقع، في ظل المناخ السياسي العالمي الحالي، يكمن الخطر في أن التوجه الأيديولوجي المحافظ المذكور أعلاه يصبح أسلوبا عقابيًا بصورة متزايدة باستخدامه أساليب استهداف الفقراء والتي من المفارقات كانت قد طورتها حكومات "اليسار الجديد" السابقة. هناك بالفعل مؤشرات على ذلك، ربما تم تمثيلها بشكل مثير للإعجاب من قبل إدارة ترامب.  وذلك من خلال استبدال المقاييس الحالية للفقر في الولايات المتحدة بمقاييس "الاستهلاك"، أي تلك المستخدمة بكثرة في برامج التحويلات النقدية في البلدان النامية (أي التحويلات المرسلة من المهاجرين في الخارج)**. فقد ادعت الإدارة مؤخرًا أنه لا يوجد أكثر من 250,000 شخص يعيشون في ظروف الفقر المدقع في الولايات المتحدة، إزاء تقدير بلغ 18,5 مليون ورد في تقرير للأمم المتحدة أو تقديرات تعداد الولايات المتحدة لعام 2016 البالغة 41 مليون شخص يعيشون في فقر (ليس فقرًا مدقعًا). إن التحرك الفاعل للقضاء على التوثيق الإحصائي الرسمي للفقر في الولايات المتحدة هو جزء من الجهود التي يبذلها الجمهوريون في الكونغرس لإضافة متطلبات العمل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتلقون قسائم الطعام، والمساعدات الطبية، وإعانات الإسكان، ومن ثم العمل على إجراء تخفيضات في المساعدات الاجتماعية بشكل عام. في المملكة المتحدة، هناك اتجاه مماثل لجعل الائتمان الشامل الذي يجمع ست مزايا مختلفة، يتمثل بدفع مبلغ شهري واحد، ليصبح ذلك وبصورة متزايدة أسلوبا عقابيًا وأيضًا وسيلة لخفض فوائد الرعاية الاجتماعية بصورة مؤثرة. في الواقع أن "الائتمان الشامل" يشبه فكرة الدخل الأساسي الشامل ويوضح السهولة التي يمكن بواسطتها بأسلوب خبيث تخريب الأفكار السياسية العائدة لليسار الاشتراكي الديمقراطي من قبل اليمين. وبهذا المعنى، فإن التحيزات في مفاهيم الفقر ومقاييسه، والتي قد تبدو في بعض الأحيان غير ضارة، يمكن أن تتحول بسرعة إلى منحدرات خطرة عندما يتغير المناخ السياسي. لذلك علينا أن نأخذ التحيزات الضمنية على محمل الجد.

     يتمثّل الدليل الآخر في أن مقاييس الفقر المطلقة ليست مناسبة تمامًا لتعكس الانتاج الديناميكي للفقر ضمن عمليات التحول الهيكلي الحديثة، وذلك لعدة أسباب تتعلق أساسا بالطبيعة النسبية للفقر في العصر الحديث. والنتيجة هي أن مثل هذه المقاييس المطلقة تنزع بصورة عامة إلى التقليل من شأن تزايد الفقر بمرور الوقت. إن عدم الملاءمة هذا يرتبط جزئيًا بالتعسف المتأصل في الاختيار الذي يتضمنه قياس الفقر، وهي معضلة متأصلة ومستعصية يجب الاعتراف بها علنًا بدلاً من الافتراض أنها يمكن أن تنتهي من خلال التطور التقني.

     مع ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية هو أن الاتفاق الحالي لفهم الفقر المدقع وقياسه، بما في ذلك

المقاييس متعددة الأبعاد، مثل تلك التي تم تبنيها رسميًا من قبل الأهداف الإنمائية للألفية ثم أهداف التنمية المستدامة، لا تزال متجذرة إلى حد كبير في تصور الحد الأدنى من الاكتفاء المعيشي، على الرغم من إدراج بعض المؤشرات عن عدم المساواة في أهداف التنمية المستدامة. في حين أن هذا التوجه لا يزال ساريًا في سياقات معينة أخرى، لا سيما فيما يتعلق بالمجاعات المعاصرة (مع التنبيه إلى أن تقييمات الجوع هي أيضًا نسبية وتعسفية). علما تغيرت سمات  الاحتياجات الاجتماعية الأساسية بشكل عام - غالبًا بشكل جذري - ضمن التحولات المرتبطة عادةً بالتطور الرأسمالي الحديث، والتحول الديموغرافي والتحولات الأخرى ذات الصلة، جنبًا إلى جنب مع تطور المعايير الأساسية المرتبطة مثلا بمعرفة القراءة والكتابة ومستويات التعليم، أو متوسط ​​العمر المتوقع والجوانب صحية.

     على سبيل المثال، من النتائج الأخرى، هي استمرار ظاهرة الجوع على الرغم من ارتفاع الدخل وتراجع فئة قليلي الدخل، وهي من بين مظاهر التنافر الأخرى أو عدم الانسجام التي كانت موضوعا لنقاشات متكررة في العقود الأخيرة. فبدلاً من إلقاء اللوم على الفقراء بسبب خيارات الاستهلاك السيئة، فإن التفسير الأكثر وضوحًا لهذا التنافر هو أن خطوط الفقر لا تواكب ببساطة التحولات الجارية في الاحتياجات الاجتماعية، حيث تكتسب الاحتياجات غير الغذائية الأسبقية بصورة متزايدة على الاحتياجات الغذائية. لذلك يتم الحد من استهلاك الطعام، لأنه من الاحتياجات التي يمكن الحد منها، مقارنة بغيرها من الاحتياجات الأكثر مرونة. وهذا هو الحال عندما يجري خصوصا تحويل سبل العيش إلى نقود وسلع بالكامل، كما هو الحال عمومًا في المناطق الحضرية. ونتيجة لذلك، يمكن أن يحدث استهلاك غير كافٍ للأغذية في سياقات بعيدة عن وضعية الكفاف في الوقت الذي يمكن للدخل أن يسمح تقنيًا باستهلاك كافٍ للغذاء، بعيدًا عن الاحتياجات الأخرى. وبالتالي، فإن خطوط الفقر المتأصلة في مفهوم الحاجة إلى الغذاء تميل إلى التقليل من أهمية هذه التحولات بمرور الوقت. 

     بعبارة أخرى، فإن المعايير التقليدية المستخدمة حاليًا في هذه المقاييس المطلقة (للفقر)*** يتم تعريفها بصورة ضئيلة للغاية لدرجة أنها تصبح قديمة أساسا بمرور الوقت في مجرى التحولات الهيكلية المرتبطة بالتنمية، خصوصا التحضر. لذلك، قد يكون تراجع معدلات الفقر، بدرجة أقل أو أكثر، انعكاسًا لواقع تأخر المقاييس المعيارية بصورة متزايدة عن مواكبة تطور الاحتياجات الاجتماعية الملحة للفقراء. إن هذه المسألة تعد مشكلة خصوصا عندما يتم استخدام هذه المعايير لتحديد عتبات "إخراج" الفقراء من نطاق الدعم والمساعدة. في الواقع، يمكن إثارة نقطة مماثلة تتعلق بالعتبات المستخدمة للتمييز بين البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، وهي أن هذه العتبات منخفضة للغاية، ومن ثم تعطي مظهرًا زائفًا لما يسمى بالانتقال إلى الشريحة الدنيا للبلدان ذات الدخل المتوسط.

 * المترجم

** المترجم

*** المترجم

 الترجمة عن كتاب:

Andrew Martin Fischer, Poverty as Ideology: Rescuing Social Justice from Global Development Agendas (Crop: 2018).

 

عرض مقالات: