عاد العراقيون اليوم أرقاما للمحو والإبادة، مقصودة كانت أم غير مقصودة، فلم يمر يوم، إلا وجحافل الموتى من العراقيين من خارج ساحات القتال والمعارك مع داعش أو غيرها، تبحث عن توابيتها جهة المقابر التي امتلأت بالشهداء والقتلى، وضاعت علينا الأرقام والإحصاءات فلم تعد تشتغل أو تستوعب الأعداد الهائلة من المغدورين بشتى وسائل النحر الآدمي، تتوزع بين المفخخات والكواتم والانفجارات ودهس السيارات والحرائق وسواها من وسائل الاستهدافات التي ما عاد العراقي يرغب بالاقتراب من فجائعها، حتى ولو كان المستهدف من أقرب المقربين له، وبالمقابل، نجد أن السياسيين لا يعنيهم ما يحصل للأبرياء، ولا هم في ذات الأرض التي تحدث فيها المذابح وهلاك الناس، ترى هل ماتت الضمائر ووصل بها الاستهتار بحياة العراقيين الى هذا الحد من الاستخفاف، وماذا يفسر السياسي من طابور المحاصصة وما يدور في فلكها، من مسلسل الاغتيالات التي لا تبعد عنه سوى بضعة أمتار، وهل بلغ التشفي بقتل الأبرياء بالسياسيين الذين يعيشون في مرجل الطائفية، بتوصيفهم بالمباركين بهذا النحر الآدمي من أبناء (جلدتهم)؟ نتساءل فقط عن طبيعة تكوين هؤلاء الساسة، إذا ينطبق أن نطلق عليهم تجاوزا، "ساسة".

نريد فقط أن أحدا منهم وهم ما شاء ربي يعدون بالآلاف، أن يخرج علينا، باديا عليه الندم ومتألما مما يجري، ويخاطب العراقيين بأنه بريء، براءة الذئب من دم المغدور يوسف، من هذه الأعمال وسيعلو شأنه، إذا ما قدم استقالته احتجاجا على مشاهد الدم اليومي وآثار الجثث المتفحمة، ليقترب كثيرا من هموم الناس ويشاركهم نواحهم على قتلاهم وجرحاهم ومعوقيهم ومختطفيهم وفقرائهم ومعوزيهم، ويتعاطف معهم، ليكون عبرة للأذرع المجرمة، أيا كان نوعها وطبيعتها وهدفها وأجندتها وتبعيتها.. و..و... لنقول إن هنالك أملا معقود عليه وعلى غيره ممن يتّسمون بذات الصفات والألوان التي تميزهم عن العراقيين الوطنيين الأحرار؟ لينزاح عنهم الهم اليومي وعذاب الضمير، إذا ما زال بعضهم أو أحدهم، يحتكم على ضمير، إن كان ضميرا إنسانيا أو وطنيا أو أخلاقيا أو مجتمعيا، لأنهم وبحسب علمي، حتى الضمائر أفتوا بشأنها لتكون منحازة للمعتقد والمذهب والقومية والمناطقية، يعلو على ضمير الوطنية وواجب المواطنة...

لا أظن، بل وأجزم، أن لا أمل يترجّى من شلل السياسة التي أخذت بالتمدد في كل اتجاه وأسّست لها امبراطوريات من أموال السحت الحرام وسرقات ونهب خيرات البلاد، والغريب في الأمر أنهم ابتدعوا فتوى عجيبة غريبة، تقضي بأن أموال الدولة لا مالك لها وهي مجهولة العائدية وسائبة، لتكون شرعا مباحة للنهب والاستيلاء عليها، وهنا تكمن المصيبة المضحكة المبكية، والكارثية كذلك، إذ كيف تكون أموال العراقيين مجهولة المالك، والعراقيون أنفسهم أصحابها  ومالكوها، وهي قانونا ملك لكافة العراقيين دون استثناء، فمن أين أتى الفاسدون بهذا التفويض الشرعي وهذه الحجج الرثة، ليحلّوا لأنفسهم سرقة أموال العراقيين؟ تلك هي المهزلة والكارثة العظمى!

إذا كانت عقلية ساسة العراق بهذا الشكل المخيف، فهل يتأمل العراقيون منهم خيرا، بإصلاح ما أفسدوه طيلة الثمانية عشر عاما، وهم يتمددون يوميا في مفاصل البلد ويتجذّرون لنشر الظلم والفساد والطائفية والمحاصصة في الأرض العراقية؟ تدعمهم أموالهم التي نهبوها وجيوشهم التي أسسوها بأسلحة ومعدات من أموال العراق، ومحطاتهم الإعلامية التي تبشّر بوجودهم وتباركه صباح مساء، وبأبواق فاقت أبواق الجرذ صدام في وقاحتها.

إن قدرا لعينا يلاحق العراقيين لعقود مضت، بدأت بمغامرات المقبور صدام وزبانيته، لتمتد الى يومنا هذا وبصيغ وأشكال وحالات يستعصي علينا تفكيكها ومعرفة أسبابها، إلا مجرد تخمينات، لأن سياسيي ما بعد التغيير، سلوكهم زئبقي لا يمكن الإمساك به وفهم أهدافه وما يدور في أذهانهم، فغلّبوا مصالحهم على أي شيء، بما فيها سلامة المواطن وسيادة الوطن على حساب مصالح ضيقة وامتيازات زائلة وانحياز فاضح للاجني، رغم أنها من الخطورة وما تسببه من فواجع وكوارث للأبرياء، وكأنهم جاءوا لتصفية حسابات مع العراقيين الذين لا ناقة لهم ولا جمل بما حدث ويحدث، سواء في زمن الطاغية وما تبعه من بلاء بمجيء مخلوقات، لا يعنيها الوطن ولا المواطن بأي شيء.

أن ويلات العراقيين وشجونهم لا عد لها ولا يمكن الإمساك بأرقام البلاوى التي استهدفت وما زالت تستهدف العراقيين وبصور شتى. وهذا الأمر ليس بخافٍ على العراقيين وبات جزءا من حياتهم اليومية، بحيث أن الغالبية العظمى منهم لم يعد يأبه بمخاطر ما يحيقه من موت محقق في أية لحظة وفي أي مكان على اتساع رقعة العراق المبتلية بالكوارث، لكثرة ما عانوه من مآس وما فقدوه من أحباب وما ينتظرهم من فواجع، عادت سلوكا يوميا، وسوى ذلك سيموتون هم وأطفالهم وعوائلهم جوعا، لأنهم في الغالب يسترزقون لقمة العيش من الحراك اليومي، كلاً وطبيعة عمله، وهي الأعمال التي غالبا ما تكون كدحا يوميا، لسد رمق العيش من خلال ما يحوزون عليه لقاء بيع جهدهم اليومي.

إن شعبا بهذه الأوضاع المفجعة ليس أمامه إما الصمت والرضوخ بالأمر الواقع أو اعلان الاحتجاج، لا بشكله المسلح، لأن العراقيين ملّوا من الدماء، بل بما متاح لهم من فرص قادمة من خلال صناديق الانتخابات، رغم أن الاقدام على الادلاء بالأصوات لا تخلوا من المغامرة بمستقبلهم وأولادهم ومستقبل البلاد، والتزوير يحيطهم في كل اتجاه، وفوهات البنادق موجهة لصدورهم، واموال السحت الحرام تغري ضعاف النفوس منهم. فما العمل اذن وهم محاصرون بين المطرقة والسندان؟ الحلول المتاحة، إن توفرت النوايا الحسنة...؟!، تتم عن طريق تشديد الضغط على الحكومة وبقية السلطات، التنفيذية منها والتشريعية والقضائية، واقحام الصوت الدولي بفعالية منتجة، لإيقاف الاستهتار المنتظر من قبل المنفلتين قيما واخلاقا وانتماء للعراق، والمنحازين بشكل عفوي وساذج ورث للأجنبي.  

يلاحظ القارئ الكريم، خصوصا ذلك المتابع لما نكتب بشكل دائم، بأننا كثيرا ما نكرر ونعيد ونذكّر بذات الأفكار والتوصيات والنصائح والتناول، وهذا ليس عيبا، بل إنه نابع من بقاء دار لقمان على حالها، وأن "دار السيد ليست بمامونة" وأن لا أمل يُترجى من هذه الطغمة التي ورغم كل الفواجع الملازمة للعراقيين، لم نلحظ ولو بشكل يسير، رود أفعال تخاطب بها الناس، بأنها تعترف بأخطائها وانها ينبغي أن تتنحى احتجاجا على ما يجري واعترافا بما سببوه من بلاء طيلة الثمانية عشر أعوام من حكمهم، وهنا تكمن الكارثة، بحيث أنهم اصبحوا في واد والشعب العراقي بوادٍ آخر، إن كانوا بصفتهم الشخصية أو من خلال أحزابهم أو مكوناتهم وتكتلاتهم المتحركة في كل يوم باتجاه مغاير ومفاجئ وغامض.

قلنا إنه لا فائدة من التذكير والاستشهاد بحجم الكوارث التي حصلت طيلة حكم السياسيين الجدد، لأنها أولا تعدّ بالآلاف من المصائب والصدمات، ولكن فقط لتحفيز المتضررين من العراقيين وهم بالملايين، بعد نسيان أوجاعهم، رغم مرحلة اليأس التي يمرون بها، والاستسلام لأقدارهم وما تجلبه لهم من مآسي، في التحرك لكسر القيود وتهديم الحواجز، فمن المعيب الخوف أن يلازم الجائع، وهو لا يحتكم على أي شيء سوى استعادة وطنه وحريته المستلبة.

فقط ما ينبغي أن نؤكد عليه ما حصل قبل أيام من كارثة مستشفى ابن الخطيب وما تسبب في اندلاع الحريق الهائل الذي لا نعرف أسبابه رغم فبركات المسؤولين وتخريجاتهم المضللة، من تفحم جثث المرضى الأبرياء المصابين بفايروس كورونا، وما تبيّن للجميع من حجم الإهمال الذي تعاني منه المؤسسات الصحية وخصوصا المستشفيات وسواها من لواحق وزارة الصحة، ناهيكم عن حجم الكوارث في مجالات عديدة في مناحي الحياة اليومية التي تهدد حياة المواطنين والنقص الهائل في توفير سبل العيش للمواطنين، لأنه وببساطة يمكننا القول ويشاركنا فيه الجميع، بأن شر البلاء ما جلبه لنا نظام المحاصصة المقيت، الذي زج بأفواج من فاقدي الأهلية والكفاءة والخبرة والتعلم والمعرفة بوظائف ليست من اختصاصهم، والأمثلة في هذا الصدد تعد بالآلاف، فهل من المعقول، ان بائع خضرة ومضمد صحي، يصبح وزيرا للداخلية بالوكالة، فأي أمن هذا الذي سيوفره للمواطن.

وليعلم جميع العراقيين، بأن ما حدث للأبرياء في مستشفى ابن الخطيب لن يكون الأخير في سلسلة فناء العراقيين، بل سننتظر كوارث لاحقة ونحن تحت حكم من لا يريد الخير لا للعراق ولا للعراقيين.

إن فاجعة مستشفى ابن الخطيب هو مثل بسيط من بين آلاف الأمثلة التي تدمي القلب ليمكننا القول: "لك الله يا عراق"

فقط ما ينبغي أن نسوقه للعراقيين هذا المثل ومن خلال اقامتنا في المغرب لأكثر من أربعة عقود ونيف، بأننا لم نلاحظ ولم نشهد حالات كالتي تحدث في العراق، لا من قريب ولا من بعيد، لوجود دولة بمسمى حقيقي، وأنظمة صارمة في تسيير شؤون المواطن والوطن، ومحاسبة شديدة لكل من تسول له نفسه الخروج عن احترام القوانين المرعية وغيرها من وسائل الأمن والأمان والعيش الرغيد للناس، فهذا بلد عربي والعراق بلد عربي، فلماذا لا يفكّر ساسة العراق بالحذو في ذات المسلك لتطبيق القانون، لأنه سيد الواقع، إذا ما أريد للبلاد أن تعيش حالة من الرخاء والسلام واحترام كرامة المواطن والانتقال السلمي للسلطة. ولكن يبدو أن ساسة العراق بوضعهم الكارثي الحالي ينطبق عليهم قول الشاعر:

لقد لأسمعت لو ناديت حيا*********ولكن لا حياة لمن تنادي

ولنا عودة قادمة حالما تحدث كارثة جديدة

عرض مقالات: