تعاني مجتمعات منطقتنا من مشكلة حقيقة تتعلق بوعي الهوية، أي مشكلة الأجابة على السؤال المطروح في كل مجتمع من مجتمعاتنا مجتمعة وعلى حدة وهو: من نحن؟ وتتفرع منه أسئلة لا حصر لها مثل: هل نحن امتداد عرقي لشعوب الحضارات الأولى المعروفة التي نشأت على المساحة الجغرافية التي نعيش فيها اليوم؟ هل هوية كل منا ثابتة مصمتة لا تتغير رغم ما ما شهدته أوطاننا من تغيرات ديموغرافية؟ ورغم ما أعاد التمازج الأثني بين الشعوب والعناصر التي تصارعت وتعايشت على أرضنا، ما أعاد تشكيله من صفات في الشخصية الأجتماعية والفردية لكل منا؟ خاصة وأن هذا التمازج كان واسعا وعميقا بما قطع الجذور التي تربطنا بالحضارات الأولى ثقافيا وربما حتى جينيا. ولابد أن أيا منا سيدهش وربما سيصعق أذا ما أجرى تحليلا لمكوناته الجينية، فقد يكون ممن يكنون كراهية عميقة للأتراك ويكتشف أن نسبة كبيرة من جيناته تركية، أو ينظر باحتقار الى العرب ويكتشف انه عربي جينيا بنسبة 60 بالمئة. أو يتوهم أنه عربي قح فأذا هو سليل لأحد أسر المماليك.

أما على صعيد الثقافة والوعي وعصبهما الرئيسي، اللغة، فأن القطيعة أكبر، ومهما حاولنا التبرؤ من اللغة العربية، فانها من تشكل وعينا، إذ بها وبتفرعاتها ـ اللهجات المحلية ـ نفكر ونحلم وتتشكل ميولنا وأحاسيسنا، أعتدالنا وتطرفنا، حبنا وكراهيتنا، تسامحنا وضغينتنا، بها نحب العرب والعروبة، وبها نحتقر العرب وننفي وجود شيء أسمه العروبة، بها نصبح متأسلمين متطرفين إرهابيين، وبها نهاجم الإرهاب والتأسلم والأسلام، وبها أيضا نصبح ليبراليين متحررين، وكذلك لا أدريين ولا دينيين. هي أطار صراعاتنا الفكرية وخلافاتنا القيمية والأخلاقية، لأنها إطار ثقافتنا المكونة من عناصر متناقضة ومتصارعة.

المتأسلمون الذين يحاولون إقناعنا بأن الأسلام هو أطار الوجود يحاولون أيهامنا أيضا، بأن اللغة العربية هي لغة الأسلام، لكنها في الحقيقة لغة محايدة وجدت قبل الأسلام وتطورت معه، ويمكن أن تتطور بالضد منه، والدليل على ذلك أنها استوعبت ترجمة الفكر اللا ديني، كما أن الأرث الثقافي العربي، ليس مقصورا على الفقه الديني الأسلامي، فضمن هذا التراث الفكري الفلسفي، والنتاج الإبداعي شعرا وفنونا وأساطيرا وسردا فولكلوريا، وأستوعبت العربية التراث الديني المسيحي، فالمسيحية عربت مفاهيما ولغة وطقوسا، والأنشاد والترانيم الدينية المسيحية مصاغة بالعربية ما عدا بعض تعابير خاصة برجال الدين، لا تختلف عن الألفاظ لعربية التي يؤدي بها البوسني أو التركي أولإيراني المسلم طقوسه الدينية، دون أن يفقه معانيها على نحو واضح.   

إذن نحن أبناء الحاضر بتشابكاته وتعقيداته بوحدته وتناقضاته، ولسنا أبناء الماضي دينيا أو ثقافيا أو تركيبا جينيا. نحن ما نحن عليه الأن وما سنكونه مستقبلا، ولسنا مجرد أنتماء للماضي، وأي دعوة للأنعزال، وبناء الجدران بين مكونات مجتمعاتنا ليست أكثر من مسعى رجعي.