الجيش العراقي يمر بتغيرات غير مسبوقة. وتشمل الإجراءات التي يسميها العسكريون هيكلة الطاقم التنظيمي والتي تشمل كلاً من إعادة تنظيم هيكل القوات البرية مع إعادة انتشارها، وتغييرات كبيرة في الأفراد في المستويات القيادية العليا. ففي خلال مة وجيزة ، تم تسريح قادة جميع صنوف القوات المسلحة، ومعظم قادة الإدارات الرئيسية والمركزية من الخدمة الفعلية ، وتم استبدال جميع القيادات العملياتية تقريباً وقادة الفرق والوحدات الأخرى. ومن بين الجنرالات المسرحين، هناك العديد ممن شغلوا مناصب رفيعة لسنوات على أساس المحاصصة، وعلى أساس الانتماء القبلي أو قربهم من مجموعة معينة، وبالتالي ممن اعتبروا أنه لا يمكن المساس بهم.

ومن بين الذين طالهم التغيير هو رئيس الأركان العامة، الجنرال عبد الأمير يار الله ، الذي تولى هذا منصبه الجديد قبل أقل من عام، والذي شرع شخصياً وفي كل اسبوع بتفقد قيادات العمليات. ومن اللافت للنظر أنه خلال كثرة تنقله بشكل غير عادي، يرافقه كل من مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء قاسم الأعرجي، ورئيس المخابرات العسكرية وعدد من كبار المسؤولين الآخرين.

يشير هذا النشاط المكثف وحجم الإجراءات المتخذة إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بتحسين أنشطة وزارة الدفاع، بل يتعداه إلى خطط أوسع بكثير تتجاوز اختصاص الجيش. فوراء هذه الخطط ليس فقط أشخاص يرتدون الزي العسكري، ولكن أيضًا قوى سياسية مؤثرة، بما في ذلك قوى خارجية. وتسمح بعض المصادر المفتوحة للمتابعين بفهم وتقييم ما يحدث والتنبؤ بالآفاق.

إن كل التصريحات في روسيا حول الانتصار الكامل والنهائي على "داعش"  في العراق إلاّ أن ما هو واضح هو نعاضم نشاط الإرهابيين. فحتى الآن، هناك أماكن على أراضي العراق تخضع للسيطرة الكاملة لتنظيم الدولة الإسلامية، والتي تشكل في مناطق شاسعة خطراً حتى على القوات الفيدرالية. وتشير التقديرات إلى أن العصابات الإرهابية السرية يبلغ تعدادها عدة آلاف من المسلحين النشطين الذين يعتمدون على الخلايا السرية في المناطق الريفية، حيث يتم إرهاب السكان كي لا يقدموا الدعم للسلطات المركزية.

ما يثير القلق بشكل خاص هو نشاط الإرهابيين في محافظات الأنبار ونينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى ، حيث لم تؤد العمليات العسكرية العديدة التي نُفِّذت بعد عام 2017 (عندما أُعلن الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية) إلى تحسن جذري في المنطقة. ففي الأيام العشرة الأخيرة، قامت طائرات من التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتنفيذ 113 طلعة جوية لقصف أهداف في منطقة مخمور، التي تقع على بعد 60 كيلومتراً جنوب غرب أربيل. وهاجم مسلحون مجهولون نقطة تفتيش في سنجار في الثالث عشر من آذار، حيث قتل جندي وأصيب عدد آخر. وفي 15 آذار، تعرضت قاعدة "بلد"الجوية الكبيرة شمالي بغداد لإطلاق صواريخ، وفي نفس اليوم تعرضت قافلة للتحالف في محافظة بابل (تم تفجير لغم أرضي على جانب الطريق السريع). وفي 17 آذار، تم تفجير عدد من أبراج نقل الطاقة في محافظة ديالى، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي القادم من إيران.

إن الإرهابيين لديهم القدرة على الانتقال من دولة إلى أخرى، لذا لم يكن من الممكن بسط السيطرة على الحدود مع سوريا حتى الآن. في هذا الصدد ، يبدو من المنطقي إنشاء "غرب نينوى" جديد، مهمته ضمان الأمن في المناطق الشمالية الغربية من محافظة نينوى حتى الحدود مع سوريا من قبل قوات فرقة المشاة العشرين المنقولة. وجاء تشكيل هذه القوة نتيجة لاتفاق أبرم بين أربيل وبغداد عام 2020 لفرض الاستقرار في منطقة سنجار اليزيدية ، حسب إدعاء كلا  الطرفين.

وتجدر الإشارة إلى نقطة أخرى هي أنه يتم ترقية الجنرالات المعروفين على أساس مهنيتهم ​​وحسمهم وعزمهم بشكل متزايد إلى مناصب قيادية. لذلك، فإن قائد القوات العملياتية في "الأنبار" ، التي تضم منطقة مسؤوليتها جزءاً كبيراً من "المثلث السني" ، هو حالياً اللواء ناصر أحمد غنام، الذي يجدر بنا الحديث عنه.

فاللواء ناصر أحمد العناز من مواليد محافظة الانبار عام 1968، وخدم في الجيش العراقي منذ عام 1988. وتخرج من مدرسة عسكرية متخصصة في القوات الخاصة وتخرج من كلية الأركان برتبة نقيب، وهي حالة نادرة. بعد الإطاحة بصدام، قرر مواصلة خدمته العسكرية. وفي عام 2010 تولى قيادة فرقة المشاة الثانية ، وأصبح لواءً. ثم عيّن قائداً لفرقة المشاة السابعة عشرة، وتحت قيادته، تم تطهير منطقة "مثلث الموت" في منطقة اليوسفية، حيث أرهبت العصابات المسلحة الأهالي وسلبت السيارات. وقدم قائد الفرقة بشكل متكرر تقييماته للوضع ومقترحاته إلى هيئة الأركان العامة. وبحسب خبراء عسكريين، أنه لو تم تعيينه قائدا لقوات "نينوى"، لكان من الممكن تفادي سقوط الموصل. ومع ذلك، في عام 2013، تم فصل الجنرال العنيد. ومع ذلك أعيد إلى الخدمة  في كانون الأول عام 2014، وعين قائدا لللقوات العملياتية في "الجزيرة". في ذلك الوقت، بدأ الوضع يتطور بشكل كارثي بالنسبة لبغداد، وكان الجنرال ناصر غنام محاصراً تماماً، لكن قواته صمدت. ومرة أخرى، تم تجاهل مقترحاته، وبدلاً من ذلك، تم إرسال المزيد والمزيد من التوجيهات، بعيداً عن الواقع، وفي حزيران عام 2015 استقال الجنرال، في الوقت الذي بدأ القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك، نوري المالكي، يكمل للتو عملية تطهير أخرى للجيش، واستقبل برضى التقرير. يشار إلى أن هيئة الأركان العامة كان يترأسها في ذلك الحين رجل لا يحمل أي تعليم عسكري على الإطلاق ، لكن هذا لم يمنعه من تولي هذا المنصب منذ عام 2004 وترقيته إلى رتبة عقيد، وتقاعد بشرف. ويتحمل هذا الرجل المسؤولية الشخصية عن العار الذي لحق بالجيش العراقي، لكنه كان على قناعة بأنه لا داعي للمطالبة بانسحاب القوات المسلحة الأمريكية، وسيكون كل شيء على ما يرام.

اذا كان نشر الوحدات العسكرية في المناطق التي تشهد نشاطاً إرهابياً واسعاً أمراً مفهوماً تماماً ، فإن إعادة تنظيم "قوات العمليات" في المقاطعات الوسطى والجنوبية تثير التساؤلات. وهكذ، أعيد تنظيم "الفرات الأوسط" إلى قيادة عمليات "كربلاء" ، وتضم منطقة المسؤولية أيضاً محافظة أخرى مهمة للشيعة هي النجف. في محافظة ذي قار تم تشكيل قوات "سومر" (الاسم القديم للسومريين) ومقرها في مدينة الناصرية.و تم تعيين اللواء أكرم صدام قائدا جديدا لقوات البصرة وهو الذي كان قائدا لفرقة المشاة الخامسة بمحافظة ديالى التي تعتبر ضعيفة للغاية من الناحية الأمنية. وقال وزير الدفاع، الذي زار البصرة مؤخرا، إنه سيتم إرسال وحدات من القوات الخاصة الاتحادية إلى المحافظة للقيام بعمليات مشتركة مع الجيش لضبط الأسلحة غير المشروعة لدى السكان المحليين.

يربط بعض المراقبين كل هذه الإجراءات بالاحتجاجات المتزايدة في البلاد. فقد استؤنفت المظاهرات الجماهيرية في الناصرية في التاسع من آذار؛ وفي الثالث عشر من آذار، اندلعت اشتباكات في مدينة النجف بين قوات الأمن ومتظاهرين تجمعوا خارج مبنى المحافظ مطالبين باستقالة السلطات المحلية. واصيب عشرات الاشخاص، لكن الاحتجاجات استمرت. وفي الخامس عشر من آذار، خرجت مظاهرات في محافظات البصرة وواسط وميسان للمطالبة بتحسين الخدمات العامة وخلق فرص العمل. وفي 18الثامن عشر من ىذار، أصيب ما لا يقل عن 11 متظاهراً و 9 من عناصر الأمن في اشتباكات بمدينة الحلة (عاصمة محافظة محافظة بابل).

 يتذكر الجميع في العراق أحداث تشرين الأول عام 2019، عندما انتشرت الاحتجاجات في جميع المدن الكبرى في ثماني محافظات واستمرت قرابة العام. وخلال هذه الفترة ، أسفرت الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين عن مقتل مئات الأشخاص وإصابة عشرات الآلاف. وكانت النتيجة سقوط الحكومة وشلل السلطات.

ويظهر على السطح وضع مماثل آخذ في التبلور الآن. فحكومة السيد الكاظمي التي تشكلت بصعوبة بالغة، ورغم الوعود المتكررة لم تلب مطالب المحتجين ومن غير المرجح أن ترضيها. وينتهي الربع الأول من عام 2021 ، لكن ليس لدى الحكومة ميزانية. في 21 كانون الأول من العام الماضي، قدم مجلس الوزراء مشروع القانون ذي الصلة إلى البرلمان للمصادقة عليه، وأشار رئيس الحكومة آنذاك إلى أنه لا يتوقع أي صعوبات في المصادقة عليه. ولكن في 20 آذار، أي بعد ثلاثة أشهر، أرجأ مجلس النواب الاتحادي مرة أخرى التصويت على الميزانية؛ والسبب هذه المرة هو رفض الكتل الشيعية الاتفاق على نصيب الأكراد من الحكم الذاتي.

عرض مقالات: