تركت زها حديد تراثا معماريا ومدرسة حديثة اثرت في الشباب أولا ثم أصبحت ايقونة للعمارة الحديثة. كتب الكثير عن حياتها وعمارتها والمؤثرات العراقية والعالمية عليها، ولكن احدى المؤثرات التي لم تستحوذ الكثير من التمعن هي دعم عائلتها في تطوير ولعها بالتصميم بالعكس من كثير من العوائل العراقية التي تضع شهادة "الدكتوراه" هدفا لأبنائهم من الولادة، وما ينتج عن ذلك من عقد "النجاح والفشل" في مستقبل الأطفال.

فبالرغم من كل معاناتها في السنين الأولى لدراسة العمارة ومعاناتها لاحقا في عدم تفهم اسلوبها المميز وسلبية المجتمع المعماري لعملها، الا انها استمرت بالمثابرة في التدريس والعمل المهني الى ان أصبح العالم يتسابق للحصول على مساهماتها. وتوالت عليها الجوائز مثل جائزة برتزكر Pritzker  عام 2004 التي مثلت اعتراف المجتمع المعماري العالمي بتفوقها لانها تعادل "جائزة نوبل" العالمية، وكانت زها اول امرأة معمارية تستلم هذه الجائزة، كما كانت اول معمارية تستلم المدالية الذهبية من المجمع الملكي للمعماريين البريطانيين RIBA عام 2016. وفي عام 2012 كرمتها ملكة بريطانيا بوسام "سيدة قادة النظام في الامبراطورية البريطانية" (DBE).

 مبادرة الدكتور سنان الشبيبي

بالوقت الذي بدأ نجم المعمارية زها بالإشعاع على النطاق العالمي، كان المجتمع العراقي الرسمي والمهني والأهلي غير مباليا بهذه المرأة الساطعة. كان الفضل الكبير لدخول زها الى العمارة العراقية يعود لمبادرة الدكتور سنان الشبيبي، محافظ البنك المركزي في حينها حيث التقاها في إيطاليا عام 2010.

توصل البنك المركزي الى عدم صلاحية مباني البنك الحالية في شارع الرشيد لأعمال البنك وتبعثر نشاطه في عدة مباني غير صالحة لأسلوب العمل المصرفي المتطور وعلاقاته الخارجية. ولابد لي هنا من الإشارة الى أهمية الحفاظ على مباني البنك الحالية مع إعادة تأهيلها لاستعمالات أخرى كونها تمثل مراحل مهمة في تاريخ العمارة العراقية، مصممة من قبل معماريين عالميين.

كان الدكتور سنان يسعى ان يكون المبنى علامة وطنية بارزة يعكس طموح العراقيين في بناء عراق جديد. وكانت نتيجة اللقاء بين القمتين الاتفاق مع مكتب زها لإعداد دراسة أولية للمتطلبات ولتصميم المبنى الجديد. قدمت الدراسة في كانون الأول 2011 بعد خمسة اشهر من عمل فريق زها بالتعاون مع عدد من الاستشاريين وثلاث ورش عمل. شملت هذه  الدراسة على اعداد متطلبات البنك ودراسة ميدانية عن الفضاءات المتعددة والعلاقة فيما بينها والكلفة التخمينية للمشروع إضافة الى خارطة طريق لإعداد التصاميم التفصيلية.

بعدها قدم مكتب زها حديد في نيسان 2011 عرضا متكاملا وشاملا لجميع المتطلبات الاستشارية المعمارية والهندسية لإعداد التصاميم النهائية خلال اربع مراحل وفي مدة زمنية امدها 26، مددت لاحقا الى 28 شهرا.. وشمل العرض على وصفا دقيقا لإعداد جميع الوثائق لتكون جاهزة للتسعير من قبل المقاولين.  كان الفريق المصمم بقيادة الكادر المعماري من مكتب زها حديد مدعوما بعقود ثانوية مع 11 مكتب استشاري ذات مستوى عالمي يقدمون اكثر من 19 نوع من الخدمات الاستشارية المتخصصة. وقام مكتب دجلة الاستشاري بتمثيل مكتب زها حديد في بغداد.

 إدارة المشروع

كان الاستنتاج، ان يدار المشروع في مراحله المقبلة من قبل فريق متخصص ومتفرغ يربط بين المعرفة الفنية والخبرة العملية. وبعد مقابلة ثلاث معمارين في لندن من قبل لجنة مؤلفة من معمار من البنك المركزي في كنساس ومستشار بريطاني واحد مدراء البنك المركزي العراقي، تم اختياري لمنصب مدير المشروع في أيار 2011. بدنا مباشرة بالتفاوض مع مكتب زها حديد، بمشاركة المستشار القانوني السيد طارق الجبوري، حول شروط العقد. كانت مهام فريق إدارة المشروع متشعبة، يمكن تجميعها في ثلاث مفاصل: أولا تمثيل البنك المركزي فيما يتعلق بالمشروع داخل العراق وخارجه والحصول على الموافقات الضرورية، وثانيا الاشراف على عمل الفريق الاستشاري وتدقيق المخططات والمواصفات والتقارير والمقترحات التصميمية، وثالثا متابعة متطلبات التصميم والبرامج الزمنية والميزانية والتحري عن متطلبات الموقع من فحوصات وغيرها للإيفاء بمتطلبات الفريق الاستشاري.

وكان التأكيد على ان المشروع يحتاج الى عمل وتنسيق يومي بين البنك المركزي والفريق الاستشاري والمؤسسات الرسمية لإنجاز متطلبات العمل بصورة حرفية. انتهى عقدي في نهاية المرحلة الثانية من اعداد التصاميم فانتهت علاقتي بالمشروع في حزيران 2013.

توقيع العقد

حصل البنك المركزي على جميع الموافقات الروتينية قبل توقيع العقد في لندن في نهاية كانون الثاني 2012. مع هذا تدخلت الأساليب البيروقراطية العراقية واحتاج العقد الموقع الى موافقات اضافية قبل البدأ بتنفيذه.

شارك في حفل التوقيع الدكتور سنان الشبيبي وعدد من مدراء وموظفي البنك المركزي والفريق المعماري بقيادة زها حديد. كما شارك فيه المعمار محمد مكية وفريق السفارة العراقية وممثلي منظمات الجالية العراقية وعدد من الصحفيين.

عبر الدكتور سنان الشبيبي عن الشعور العراقي بهذه المناسبة حيث قال ".. وستتم اضافته (المبنى) الى تراث العراق الذي يمتد لأكثر من 8000 عام، التراث الذي منحت فيه الإنسانية جوهر كثير من معارفه وتقنياته. ومن هو الشخص المناسب الذي يطلب منه تصميم مقرنا؟ ايقونة في عالم العمارة، زها حديد"كما كتبت زها في البيان الصحفي: "لايهم كم هي المدة التي تعيشها خارج بلدك – فهنالك شيء رائع عندما تتكلم اللغة وتفهم الثقافة. لقد ولدت بالعراق – ومازلت اشعر بانني قريبة منه ... وانا اشعر باني محظوظة لان اعمل في العراق وبمشروع له هذه الأهمية الوطنية"

استمر العمل من قبل مكتب زها حديد وباقي المكاتب الاستشارية المرتبطة به في اعداد التصاميم على المراحل الأربعة الى ان قدموا المخططات التفصيلية، حسب علمي، في تشرين الثاني 2014. وبهذا يكون العقد مع مكتب زها حديد قد انتهى.

الفترة التي تلت كانت بطيئة نسبيا وبدأت بتعين فريق للإشراف على تنفيذ المشروع موقعيا، ثم التعاقد على تنفيذ المشروع مع شركة DAAX Construction وهي شركة المقاولات التي نفذت مشروع حيدر اليفي في أذربيجان.

حسب متابعتي بدأ العمل في الموقع في كانون الثاني 2018 على ان ينتهي عام 2022. وقد يمدد العقد بسبب جانحة كرونا وظروف العراق الأخرى الى النصف الأول من 2023، ولربما بعد ذلك التاريخ اذا شمل العقد على جميع معداته الفنية والأمنية واللوجستية بحيث يمكن الانتقال الى المبنى حال انتهاء المقاول من تشغيله في الفترة الزمنية التي يتحدثون عنها رسميا.

كلمة اخيرة

عند الحديث عن عمارة زها حديد يتبادر الى الذهن مصطلحات مثل "العمارة الورقية" او "المدرسة التفكيكية" ثم "الانسيابية" او "ما بعد الحداثة". كل هذه المصطلحات تنسى ان ممارسة المهنة تتداخل فيها مؤثرات أخرى. فالخيال والمثالية قد تكون الميزة الواضحة للعيان الا ان نجاح المشروع المعماري، كما اكدتها زها، تعتمد على الأسس الثلاث للعمارة: الوظيفة والمتانة والجمال. وهذا ما شاهدناه في تصاميم البنك المركزي "انه هيكل مفيد، جمالي، متين، وعملي مصمم للإيفاء باحتياجاته" - من موقع مكتب زها.

الدراسات والبحث الذي قام به المعماريون والمكاتب الاستشارية عميق ودخل في صلب التفاصيل. فمن جهة كانت العلاقات الوظيفية وحركة دخول الموظفين والزوار والعجلات الى الموقع. من جهة أخرى قام الفريق بدراسات مفصلة عن جوانب عديدة من متطلبات المشروع مثل نقل الأموال والوسائل الحديثة في تصميم الخزائن وفي تحديد متطلبات التقييم الأمني وتكنلوجيا المعلومات وتأثير اشعة الشمس والتي اثرت على شكل العاكسات في واجهة البرج. ومن الملاحظ ان إعادة تقييم المتطلبات أدى الى توسيع رقعة البناء للطابق الأرضي والمباني تحت الارض ونقل البرج الى جهة شارع عمار بن ياسر بحيث اصبح البناء الأرضي على شكل منصة Podium امام البرج ممتدة الى شارع أبو نؤاس ونهر دجلة في تسلسل منطقي من النهر الى البرج مرورا بشارع أبو نؤاس وقاعدة البناء السفلى.

المثال الاخر هو الدراسات المختلفة لتطبيق مبادئ التنمية المستدامة. فقد تقرر ان يسجل المبنى للحصول على شهادة BREEAM من مركز البحث العمراني Building Research Establishment في بريطانيا والتي تحدد المعايير والضوابط الفنية التي يجب اتباعها اثناء التصميم وفي التنفيذ ولفترة معينة من الاستعمال قبل الحصول على الشهادة

نعمان منى - معمار

 درس نعمان العمارة في بريطانيا وعمل في مكاتبها الاستشارية اثناء الدراسة وبعدها متدرجا في موقعه حيث شغل مدير القسم المعماري في المكتب الاستشاري الأخير الى حين تقاعده في 2010. وكان مسؤولا عن مشاريع تجارية في بريطانيا واوربا. عمل خلال هذه الفترة في العراق من عام 1974 الى 1979 ثم مديرا لمشروع مبنى البنك المركزي الجديد في بغداد من عام 2011 الى 2013

*عن صحيفة المستقل

عرض مقالات: