يعتبر مشروع حزب الشعوب الديمقراطي في تركيا تجربة مهمة تواجه هذه الأيام حملة قاسية من اجل شلها، ولكن الحزب يبدو قادرا على الدفاع عن دوره الاستثنائي في الحياة السياسية في تركيا على الرغم من القمع الهائل والتهميش السياسي الواسع النطاق، الذي يمارسه النظام السياسي بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي بزعامة رجب طيب اردوغان. وعلى الرغم من استمرار اعتقال الآلاف من أعضاء الحزب، بحجة الانتماء الى حزب العمال الكردستاني، الذي تعده السلطة في تركيا منظمة "إرهابية". وكذلك إقالة العديد من رؤساء البلديات في 48 بلدية ومدينة كبيرة مثل مدينة ديار بكر من ممثلي الحزب، وفرض الإدارة القسرية، من خلال تعيين مسؤولين حكوميين غير منتخبين، وبالتالي الغاء إرادة قرابة 4,356 مليون ناخب. لقد تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من المحافظة على قوته التصويتية الى حد بعيد، حيث حصل في انتخابات عام 2018 على 11,7 في المائة من أصوات الناخبين، مشكلا بذلك الكتلة الثالثة في البرلمان التركي.

 وتقوم وزارة العدل التركية بأعداد ملفات لتقديمها للقضاء بهدف رفع الحصانة البرلمانية عن 21 نائبا من كتلة الحزب البرلمانية، بالإضافة الى 4 نواب آخرين، استنادا الى التهم المستهلكة التي داب النظام التركي توجيهها للحزب وعموم قوى اليسار في البلاد. ولا تسعى حكومة اردوغان الى اصدار قرار بمنع نشاط الحزب، بسبب الضغط الذي ستواجهه، والتضامن الأممي الواسع الذي يحظى به الحزب، ولذلك تعمل حكومة اردوغان على توسيع القمع والملاحقة وعمليات رفع الحصانة بهدف شل الحزب، بدلا من المنع المباشر بقرار قضائي. والأمر المهم الذي يجب ان يكون واضحا، على الرغم من عنصرية التحالف الحاكم في تركيا والذي يشارك فيه حزب فاشي مكشوف، فان شل نشاط الحزب يتعدى الكراهية القومية ضد الشعب الكردي الى محاولة أي خنق المشاريع والبدائل اليسارية في البلاد.

 صعوبات ذاتية

 تنتشر داخل صفوف الحزب انتقادات متزايدة، لمشروعه وطرح نفسه كحزب يساري في عموم تركيا، باعتباره حزبا عابرا للحدود العرقية والدينية والثقافية، وهذه نقطة الخلاف الرئيسية. وهذا ما يميزه أيضًا عن التجارب السابقة مثل "حزب المجتمع الديمقراطي". وبينما رأى حزب المجتمع الديمقراطي والمحاولات العلنية التي سبقته نفسها أحزاب تمثل أولا مصالح السكان الكرد، حاول حزب الشعوب الديمقراطي جعل تعزيز دوره كحزب يساري لعموم سكان تركيا. وحتى ذلك الحين لم يكن هناك بين الأحزاب العلنية مثل هذا الحزب، سواء في الشارع أو في البرلمان، سوى "حزب الحرية والتضامن"، الذي يتمتع بدور محدود جدا. وتمكن حزب الشعوب الديمقراطي من سد هذه الفجوة بنجاح وكسب العديد من النشطاء اليساريين في غرب تركيا، ومعظمهم من الأتراك. وتم تغيير اسم الحزب الكردي الرائد المباشر "حزب السلام والديمقراطية" إلى "الحزب الديمقراطي للمناطق"، وبالتالي تحول إلى فرع اقليمي لحزب الشعوب الديمقراطي في كردستان تركيا، حيث يمثل عمليا مصالح الكرد، وبهذا أصبح هذا النشاط جزءا   من نشاط حزب الشعوب الديمقراطي. وفي الانتخابات البرلمانية العامة في حزيران 2015، حصل حزب الشعوب الديمقراطي، بواسطة هذه الاستراتيجية، على 13.1 في المائة من الأصوات، وبهذا كسر الأكثرية التي تمتع بها حزب العدالة والتنمية الاسلامي الحاكم، مسجلا اهم نجاحاته الانتخابية.

 وردا على هذا النجاح أطلقت حملة قمع عنصرية قومية ضد حزب الشعوب الديمقراطي، وبدأت حرب منظمة ضد كردستان تركيا، وبالتالي واجه الحزب صعوبات جدية. لقد استطاع الحزب مواجهة  حملات القمع والحرب على معاقله في كردستان، و المواقف المعادية او المترددة من أحزاب المعارضة البرلمانية، والموروث القومي العنصري المترسخ في المجتمع التركي ضد القوميات والمجاميع الثقافية غير التركية، وعدم الاقدام على العمل المشترك او التعاون مع حزب الشعوب الديمقراطي. وأكثر من ذلك شاركت جميع الأحزاب التركية المؤثرة، بما في ذلك الحزب الجمهوري (الكماليون)، الذي يعد نفسه حزبا ديمقراطيا اجتماعيا، في التعبئة القومية ضد الشعب الكردي. ولم تقم هذه الأحزاب بإدانة حملات الاعتقال الجماعية على قيادات وكوادر حزب الشعوب الديمقراطي، وكذلك لم تتم إدانة الحرب في المناطق الكردية. وظل العديد من الليبراليين اليساريين في غرب تركيا صامتا، لم يتخذوا موقفًا مسموعًا ضد الحرب العلنية ضد الشعب الكردي. وهكذا بدا أن مشروع حزب الشعوب الديمقراطي القائم على العمل كجسر يساري وتقدمي رابط بين جميع المجموعات السكانية في تركيا قد وصل الى حدوده النهائية. وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها الحزب، بقي ثقله التنظيمي والانتخابي في المدن والقصبات الكردية وبدا أن جاذبية حزب الشعوب الديمقراطي في غرب البلاد مقيدة. بسبب قمع الحكومة ورفض أحزاب المعارضة التركية، ما  أدى الى خلق صعوبات جدية اما نشاط الحزب وتأثيره في البرلمان الوطني.

 وأدى اندلاع الحرب ضد الشعب الكردي مرة أخرى في خريف 2015، إلى نقاشات مثيرة للجدل داخل الحزب بشأن مساره المستقبلي. كانت جولة المناقشات الأولى، والتي لم تكن مفاجئة تتعلق بمشاركة الحزب في الانتخابات. لقد رأى فريق في الحزب إن الانتخابات الديمقراطية مستحيلة في زمن الحرب واستبداد المترسخ، ودعوا الى مقاطعة الانتخابات. ولا تزال شكوك هذا الفريق بشأن المشاركة في الانتخابات قائمة وكذلك المطالبة بهياكل وأنشطة سياسية لا تركز على الانتخابات البرلمانية. ملف النقاش الثاني، الذي لم يتم حله بالكامل بعد، يتعلق بسعي حزب الشعوب الديمقراطي ان يكون حزبا لكل مواطني البلاد. ان عدم تحقيق نجاح كبير في اختراق الذهنية القومية والدينية المحافظة، والتي تشكل جزءا من الأرت العثماني، وتعد أحد ركائز الموقف العنصري تجاه التعددية القومية والثقافية في البلاد، أدى إلى انطلاق تساؤل داخل حزب الشعوب الديمقراطي فيما إذا كان ينبغي للحزب بدلاً من ذلك التركيز على دوره كممثل لمصالح السكان الكرد. وعكس نواب سابقين وحاليين في الحزب مواقف متباينة في اثناء مشاركتهم في مؤتمر عقد في المانيا في 30 كانون الثاني الفائت، شارك فيه عدد من الشخصيات الناشطة في الحزب: دافع النائب السابق عن الحزب، ألتان تان، بشكل خاص، عن أطروحة مفادها، أن السكان الكرد محافظون مثل بقية سكان، ويتقبلون على مضض سياسات حزب الشعوب الديمقراطي اليسارية والتقدمية ، وبالتالي برر استقالته من الحزب. وتنتقد شخصيات سياسية اخري الحزب من زاوية مختلفة، يرى النائب السابق عن الحزب ضياء بير، أن حزب الشعوب الديمقراطي يوظف كل طاقاته لإضفاء الطابع الديمقراطي على تركيا بأكملها وأن اهتمامه بالمصالح الحقيقية للسكان الكرد ثانوي. وأشارت وسائل اعلام الى صورة رمزية لموقف أحزاب المعارضة التركية من حزب الشعوب الديمقراطي: في المؤتمر الصحفي الذي عقد بعد زيارة قيادة حزب الشعوب الديمقراطي لمقر حزب الشعب الجمهوري، ظهر الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي ميثات سنكار بمفرده أمام كاميرات وسائل الإعلام، بينما لم يُشاهد رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو. ان هذا السلوك يؤدي الى تصعيد الجدل داخل الحزب بشأن أولوياته هل يستمر كمشروع يساري مشترك، ام يعود ثانية الى مواقف حزب قومي يحصر اهتمامه بالحقوق القومية للشعب الكردي.

 ان تجربة حزب الشعوب الديمقراطي مهمة جدا لأنها، ورغم كل عوامل القمع والاستبداد والصعوبات الأخرى انموذج ممكن   للعمل المشترك بين قوى اليسار في غرب تركيا، وقوى اليسار في كردستان تركيا. واهمية هذه التجربة تكمن في انها تأتي في بلد يستند على موروث تشابك فيه العنصرية القومية والتشدد الديني، يلغي الحقوق المشروعة للقوميات والجماعات الثقافية الأخرى. إضافة الى ذلك فان التجربة التاريخية لليسار التركي تعكس قصورا في التحليل والموقف من القضية الكردية. اضف الى ذلك ان تجربة حزب الشعوب الديمقراطي تواجه معوقات كثيرة، لانها تتجاوز تجارب اليسار السابقة التي امتازت بالتقليدية، وظلت اغلب قواها حبيسة جمود فكري غير قادر على انتاج رؤية سياسية واشكال تنظيمية تعزز قدرات اليسار التعبوية وتحد من ظاهرة تناحره وتشتته في عشرات العناوين السياسية والفكرية الضيقة.

عرض مقالات: