الفشل الذي رافق الأحزاب المتنفذة من احزاب الإسلام السياسي والأحزاب التي شاركتها مأساة المحاصصات والشراكات في النهب والسلب والابتزاز والتهجير والبطالة والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، أظهر للناس بما لا يقبل الشك الضرورة الحتمية للتغيير الذي يتحدث عنه الناس في كل مكان وما عليهم إلا تحقيقه فعلاً من خلال تقديم البديل الآخر والمختلف فعلا عن القوى المتنفذة اليوم. هذا البديل الذي ينبغي ان يطرح نفسه بكل جدية وعزم على تحقيق شعار شباب ثورة تشرين الباسلة باسترجاع الوطن المسروق من لصوص احزاب الإسلام السياسي واعوانهم من الشوفينيين ومتخلفي الفكر.

وحينما نستعرض الساحة السياسية العراقية اليوم عن كثب، فسوف لا نجد اي تغيير نوعي ضمن أحزاب الإسلام السياسي وتجمعات التعصب القومي وكيانات التمحور العشائري وتشكيلات الاصطفاف المناطقي التي قادت إلى الوضع المأساوي الذي مرَّ ولم يزل يمر به وطننا حتى الآن. إن آليات هذا التغيير الذي نرجوه لوطننا وشعبنا تتوفر في تلك القوى السياسية التي يجمعها هدف التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية والتي تلتقي على درب النضال الوطني نحو انتشال وطننا من كل مخلفات الثمان عشرة عام العجاف الماضية التي يعاني وطننا وشعبنا منها الويلات والمآسي الجسام.

إن السؤال الذي يواجه قوى الخير في وطننا والمتمثلة بكل دعاة الديمقراطية والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي في دولة المواطنة المدنية، دولة التواصل الحضاري على طريق التطور العلمي الذي تعيشه الإنسانية اليوم، هذا السؤال قد يطرحه، وعلى حق، كل مواطنة وكل مواطن عراقي والقائل: ماذا يعيقكم ايها الديمقراطيون من التحالف امام قوى الشر التي قادت وطننا نحو الهاوية والمصير المجهول والتي لم تزل تسير على درب ضياع الوطن هذا؟ لماذا تتركون قوى الشر والجريمة الماسكة بتلابيب وطننا على درب الإفلاس رغم خيراته الكثيرة، وعلى درب التناحر الاجتماعي رغم روح التآلف التي ينشدها اغلب اهل وطننا؟ ولماذا كل هذا السكوت عن جرائم الليل والنهار التي تمارسها الأحزاب الحاكمة وعصاباتها المسلحة والمتمثلة بقتل او خطف وتغييب واعتقال وتهجير كل من يطالب بعودة وطنه المسروق وماله المغتصَب وحقوقه المنهوبة وحريته المكبوتة وإفقارِه المتعمَد وحرمانه واطفاله واهله من ابسط مقومات الحياة الإنسانية في المأكل والمسكن والمشرب والتعامل مع الناس في علاقاته الاجتماعية؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير التي تواجهها القوى الديمقراطية اليوم تبحث عن جواب لدى هذه القوى التي لم تزل بعضها مصرة على الابتعاد عن البعض الآخر رغم الاتفاق على الهدف، وفي احيان كثيرة الاتفاق على الوسيلة ايضاً.

القوى المدنية الديمقراطية واغلب الناشطين في صفوفها، عرفها الشعب مسبقاً وجربها

ليس في مجال النضال السياسي الوطني الطويل فحسب، بل وفي كافة الميادين الثقافية والاجتماعية التي مارسها ناشطوها. فكانوا أول مَن يُضحي في سبيل الشعب فعلاً وآخر مَن يستفيد، وتاريخ الدولة العراقية يقدم لنا الشهادة التاريخية على ذلك.

لقد كان كثير من هؤلاء المدنيين الديمقراطيين من العاملين بلا هوادة ولا تخاذل، وسيظلون كذلك، على تحقيق احترام حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس أو المُكوِن أو اللون أو الدين، وعلى التمسك بالهوية الوطنية العراقية والنضال الحازم ضد إبعادها وإحلال الهويات الأخرى بدلاً عنها مهما كانت صفة أو قداسة هذه الهويات لدى البعض، إذ لا قداسة لدى الفصائل الديمقراطية تطغى على قداسة الهوية الوطنية العراقية.

دعاة الدولة المدنية الديمقراطية عملوا وناضلوا بعزيمة لا تُثنى، وسيظلون كذلك، على ضمان حقوق المرأة العراقية، التي يحاول الآخرون تغييبها وإذلالها والانتقاص منها. حيث يسعى هؤلاء الناشطون على الساحة السياسية العراقية إلى الاعتراف بطاقات الشعب الخلاقة بغض النظر عن اية اعتبارات للجنس والقومية والدين والمنطقة والعشيرة، واحداث ثورة تشرين اظهرت للقاصي والداني عظمة المرأة العراقية وقدرتها على تحمل مسؤولية الوطن والدفاع المستميت عن حقوق الشعب. ولم يرق ذلك لدعاة إذلال المرأة وتغييب دورها الريادي في المجتمع من الإسلاميين المتخلفين واعوانهم، فسارعوا الى قتلها على ساحات الاحتجاج او اختطافها وتغييبها او تهديدها بأحط وساءل التهديد التي عكست انحطاطهم الاخلاقي وفقدانهم لكل معايير الشرف والكرامة.

رواد الحداثة والتحضر وكل المنضوين تحت راية الدولة المدنية الديمقراطية قدموا التضحيات الجسام والشهداء الأبرار على ارض الوطن العراقي دفاعاً عن حقوق الطبقات المسحوقة من شغيلة اليد والفكر ومن الفئات الاجتماعية المُهمشة وذوي الدخول الضئيلة من العمال والفلاحين والكسبة الصغار والمتقاعدين وصغار العاملين في المؤسسات الرسمية والخاصة. إن ابناء واحفاد هؤلاء الشهداء يشكلون اليوم خير خلف لخير سلف للمناضلين الذين خاضوا سوح النضال الوطني إيماناً منهم بأهمية هذا النضال لتحقيق العدالة الاجتماعية في الدولة العراقية المدنية الديمقراطية.

وبالعكس من ممارسات الإسلاميين وشركاء محاصصاتهم الذين سرقوا الجمل بما حمل، لم يُعرَف عن الديمقراطيين العاملين في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التخاذل في عملهم أو التفريط به أو استغلاله لمنافع ذاتية او حزبية. لقد ظلوا يقرنون القول بالعمل دوماً، وهذا هو ديدنهم في الحياة وهذه هي قناعاتهم البعيدة عن اللف والدوران وأساليب الخداع والتضليل التي مارستها بعض القوى التي تسلطت على كثير من مناصب الدولة ومؤسساتها والتي خبِر الشعب أساليبها في الاستغلال ولإثراء الشخصي والمنافع الذاتية خلال السنين الثمانية عشر الماضية.

القوى المدنية الديمقراطية أثبتت خلال حقب النضال الوطني المختلفة مدى تبنيها لقضايا الشباب والطلبة والعمل على ضمان توفير أحسن الأجواء لكي تمارس هذه الفئات الاجتماعية الشابة كل ما تراه مناسباُ لتحقيق طموحاتها في حياة يسودها العلم وتنطلق فيها المعارف والفنون والإبداعات الشبابية على خير ما يمكن وعلى أحسن وجه. وعلى هذا النهج أيضاً سار شباب ثورة تشرين وقدموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمغيبين من اجل ذلك.

وأخيراً، وليس آخراً، فإن القوى الديمقراطية الساعية لتأسيس الدولة المدنية تتوفر لديها كافة الإمكانيات العلمية والعملية ويحمل روادها تراكمات الخبرات والتجارب النضالية ودراية بالسياسة وآلياتها الثابتة والمتغيرة، منطلقين من فكر منهجي ثوري يؤسس على النظرة العلمية للتطور وآفاقه التي ظل وطننا بعيداً عنها خلال وبعد سقوط البعثفاشية ونظامها الدكتاتوري البغيض وحتى الآن بعد تولي سياسيي الصدفة على شؤون البلاد والتلاعب بقوت اهله.

افلا تكفي كل هذه المشتركات وغيرها الكثير الكثير لكي تراجع القوى المدنية الديمقراطية مواقفها التي تعمق البعد بين كياناتها وتعمل، خاصة في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة التي يمر بها وطننا وشعبنا، على التأسيس لقوة سياسية موحدة قادرة على مواجهة قوى التخلف والظلام سراق خيرات الوطن ومُذلي اهله من الإسلاميين ورهطهم المحاصصاتي بكل فئاته وجميع رواده؟

إن مثل هذه القوة السياسية التي ستقود وطننا وشعبنا الى الخلاص من هيمنة الأحزاب الحاكمة اليوم هي الحل الوحيد الذي لا يمكن تجاوزه او التماهل في تحقيقه إن أردنا حقاً ان نعيش التغيير الحقيقي في العملية السياسية وليس تغيير وجوهها فقط.

عرض مقالات: