كل المتابعين للعملية السياسية بالعراق على قناعة تامة بان ثورة تشرين الشبابية غيرت كثيراً من المشاهد التي سادت الساحة السياسية العراقية منذ سقوط دكتاتورية البعث وتولي احزاب الإسلام السياسي واحزاب الشوفينية القومية قيادة هذه الساحة والتحكم بمجريات امورها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية اضافة الى السياسية.

لقد حدثت هذه التطورات على الساحة السياسية العراقية بفعل الهبة الجماهيرية التي بدأت منذ سنين عدة والتي توّجها شباب تشرين وعبروا بها عن عزمهم وتواصلهم الذي عجزت كل قوى القمع والجريمة التي وظفتها حكومات الإسلاميين ورهطهم من الشوفينيين عن تفكيكه او حتى التقليل من شأنه سياسياً واجتماعياً. كما ويؤكد كل المتابعين على استمرار هذه الثورة العارمة ولو بصيغ وآليات مختلفة وستظل مستمرة حتى يتحقق هدفها الأساسي باسترجاع الوطن الذي سرقة لصوص الأحزاب الإسلامية وسماسرة القومية الشوفينية في وطننا.

ومع مسيرة كل ثورة بهذا الزخم وبهذه القوة الجارفة وهذا السيل الاجتماعي العارم، خاصة بين صفوف الشباب، الشباب الذي لا يمتلك آليات لصوص السياسة التي مارستها الأحزاب الحاكمة، ولذلك جعل هؤلاء الثوار الشباب من تصرفات هذه الأحزاب ومنهجها السياسي وكل ما آلت اليه العملية السياسية في وطننا من مآسي وويلات كمثل للحياة السياسية الحزبية، ومعبراً عن القناعة بالنتيجة السيئة التي يمكن ان تقود الأحزاب وطننا لها. واستناداً الى هذا الفهم عن الأحزاب والحياة الحزبية انطلقت بشعارات وارتفعت هتافات على سوح الاحتجاج المختلفة وفي مناسبات عدة تنادي برفض الأحزاب والحياة الحزبية، بل وحتى التنظيم الذي يفرز قيادة تمثل الثوار في مطالبهم.

لقد شكل هذا الرفض للأحزاب والحياة الحزبية من قِبَل الثوار حداً لمعادلة صعبة جاء حدها الثاني ليناقض الحد الأول تماماً وذلك عندما توجهت مجاميع مختلفة من ثوار تشرين الى تشكيل احزاب ومنظمات سياسية اعتبروها نتيجة منطقية تبلورت عن معطيات الثورة وانعكاساً موضوعياً لتجربتها التي استمرت رغم مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمغيبين والمختطفين من قبل مليشيات الأحزاب الحاكمة وعصاباتها المنفلتة التي خرجت عن سيطرة الدولة العراقية وباتت تمارس عملياتها الإرهابية ، كجهة ثالثة في نظر الأحزاب الحاكمة ، كيفما ومتى تشاء. الحكومة التي تعلن على الملأ بانها لا تعرف قتلة شعبها، لا يمكن نعتها إلا بعصابة همُّها غنيمتها.

كل من له ابسط الاهتمام بشؤون السياسة وآلياتها يعلم جيداً ان التنافس الحزبي في اجواء توفرها دساتير وقوانين دولة مدنية علمانية ديمقراطية، تشكل مقومات الديمقراطية الحديثة وتعمل على بناء اسس تبادل السلطة سلمياً وخلق تآلفات سياسية، لا على اساس ديني او قومي، بل على ما تفرزه صناديق التنافس الديمقراطي بين الأحزاب والتنظيمات السياسية المشاركة بانتخابات ينظمها قانون عادل خال من الامتيازات وتمارسها شعوب تراقب نزاهتها وخلوها من كل اعمال التزوير والتلاعب بأصوات الناخبين.

لقد تمخض حل هذه المعادلة بحديها الأول والثاني عن حلول تشير الى هذه الضبابية في العمل السياسي الذي رافق الثورة والذي استغله اعداؤها من اٍلاسلاميين والشوفينيين  بإشاعة الأكاذيب عن الثورة واهدافها والقذف بعصاباتهم لتجريف الخيم وقتل المتواجدين على سوح الثورة المختلفة وحرق بيوت المتظاهرين وتهديدهم وتهديد عوائلهم وإشاعة فوضى السكاكين والهراوات، إضافة الى الأسلحة النارية التي وظفتها عصابات الأحزاب الإسلامية في مناسبات مختلفة لممارساتها السلطوية القمعية ضد المتظاهرين الذين مارسوا سلميتهم قولاً وعملاً منذ بدء الثورة واستمروا على ذلك حتى اليوم.

وما رافق هذه الحلول تجلى من خلال التشظي الذي رافق الثورة وبروز موقفين اساسيين بين صفوف الثوار. الموقف الأول الذي حاول معالجة الخطأ برفع شعارات العداء للحزبية والأحزاب فتبنى الحزبية بذاتها وعمد الى تشكيل تنظيمات تنحى هذا المنحى الحزبي والعمل السياسي ضمن تنظيم له ما للتنظيمات الأخرى من برنامج سياسي ونظام داخلي وضوابط العضوية وما شابه.

والموقف الثاني الذي ظل مناوئا للحزبية ورافضاً لأي تجمع تنظيمي حتى وإن تبنى شعارات تشرين، كما في التنظيمات والأحزاب التي تبنت اهداف تشرين في الإعلان عن تشكيلها، وظل هذا الموقف الثاني يؤكد بان الثورة مستمرة بالشكل الذي انطلقت منه كثورة شعبية جماهيرية لا حزبية.

ما اعتقده ان هذين الموقفين لا يصبان في تيار الثورة التي رفعت شعار " نريد وطن " او " نازل آخذ حقي ".

فالموقف الأول الذي تبنى الحزبية لم يتفق على حزب او تجمع واحد يمكن الحديث عنه على انه يمثل الثوار في وحدة شعاراتهم وهدفهم على حد سواء. الأحزاب والتنظيمات والتجمعات المختلفة المنبثقة عن تشرين اعطت لأعداء الثورة من احزاب الإسلام السياسي والأحزاب القومية الشوفينية مساحة واسعة للنيل من الثوار وذلك من خلال عكس تصورات الأحزاب اللصوصية الحاكمة على توجهات ثوار تشرين كطلاب مناصب وإبعادهم عن توجهات الثورة واهدافها. بالإضافة الى ذلك فإن هذه التشكيلات الحزبية التشرينية ساهمت في عملية الانشطارات الحزبية التي بدأت تتكاثر دون حساب حتى بلغت المئات من الأحزاب والتنظيمات التي لا تخلوا برامجها جميعاً من نفس العبارات المكررة حول الديمقراطية والحرية والدولة المدنية وتحقيق المطالب الجماهيرية.

اما الموقف الثاني الذي ظل رافضاً للتنظيم الحزبي معبراً، بحق، عن ان تشرين لا يمكن اختزالها بحزب او تنظيم، فقد ابعد المتجهين لتشكيل الاحزاب والتجمعات عن صفوفه معتبراً اياهم قد خرجوا عن صفوف الثورة وسعوا لتحقيق اجندات شخصية على حساب الثورة وشهداءها وكل من ضحى من اجلها.

هذا الانقسام في صفوف ثورة تشرين شكل إحباطاً للقوى الديمقراطية العراقية التي كانت، ولم تزل، تنظر الى ثوار واهداف وساحات تشرين على انها المركز الذي تتمحور حوله القوى الديمقراطية العراقية وان يكون الكوكب الذي تدور في فلكه قوى الشعب الساعية لتغيير سياسة المكونات ودولتها الطائفية الشوفينية التي تسير بوطننا نحو الخراب والدمار الذي لا نهاية له.

تشرين واهدافها وبكل قواها يجب ان تعمل على جذب القوى الديمقراطية نحو تآلف سياسي متين ومؤثر يعمل على استرجاع الوطن فعلاً من لصوص الأحزاب الحاكمة ويسير به نحو مجتمع الدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

عرض مقالات: