كان برنارد باروخ مستشار الرئيس الاميركي هاري ترومان هو أول من نحت مصطلح  " الحرب الباردة " عام 1947 ، أي بعد عامين فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينيات القرن الفائت  ، وقد قصد منه تدشين حرب بين بلاده وحلفائه الغربيين من جهة والاتحاد السوفييتي وحليفاته من دول المنظومة الاشتراكية في اوروبا الشرقية من جهة اخرى ، بحيث توظف فيها الولايات المتحدة شتى أشكال الأسلحة والحروب النفسية من سياسية وإعلامية وثقافية واقتصادية واجتماعية ضد المعسكر الاشتراكي، فيما عدا الأسلحة والحروب النارية ، وكما هو معروف فقد جابه الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه تلك الحرب بالمثل . ومع أن الحرب الباردة كما أسماها باروخ استمرت منذ أواسط الأربعينيات حتى مطلع التسعينيات أي زهاء نصف قارن، إلا أنها لم تكن بأي حال من الأحوال على شاكلة ودرجة خطورة الحرب الباردة التي عرفها العالم منذ أوائل الألفية الجديدة، حتى انتهاء سنة 2020 المنصرمة للتو والتي طوت معها العقدين الأولين من قرننا الحالي. هذا رغم تبدل اصطفافات من تعتبرهم الولايات المتحدة أعداء لها ويشكلون تهديداً لأمنها ولحلفائها والعالم، مع ثبات روسيا والصين ضمن دائرة من تصنفهم واشنطن بأعدائها الرئيسيين، بالإضافة إلى إيران والمنظمات والجماعات الارهابية التي كانت واشنطن هي نفسها من تحتضنها وتمولها، كالقاعدة وطالبان وداعش وأضرابها. بل يمكننا القول ثمة درجة معقولة من العقلانية تميز به مناخ الحرب الباردة الذي ساد العالم حينئذ في حقبة النظام الدولي الثنائي القطبية بين القوتين النوويتين الاتحاد السوفييتي من جهة والولايات المتحدة من جهة اخرى.

ولعل أبرز مثال ساطع لتلك العقلانية في العلاقة بين الدولتين العظميين ما شاهدناه من فن إدارتهما وتسويتهما لأزمة الصواريخ النووية السوفييتية التي نُصبت على أراضي كوبا الاشتراكية عام 1962 لحمايتها من المخططات والتهديدات الأمريكية الجادة بإسقاط ثورتها الوليدة ، حيث كان العالم حينئذ يقف فعلياً على شفير حرب نووية  لولا حنكة الرئيسين الأمريكي المغدور جون كيندي والسوفييتي نكيتا خروشوف وتحليهما بضبط النفس في اللحظات الاخيرة من الأزمة وتسوية الأمة الخطيرة على قاعدة " لا غالب ولا مغلوب " بما يؤمن حماية الثورة الكوبية مع سحب الصواريخ السوفييتية من الجزيرة وتغليب حفظ السلم العالمي وسلامة البشرية على مخاطر محرقة نووية كونية  . 

والحال يمكننا القول بأن سنة 2020  كانت السنة الأطول بين سنوات العقدين الماضيين وذلك لما تخللها من أحداث جسام متسارعة متزاحمة في سياق الحرب الباردة الجديدة التي تقف وراءها أيضاً هذه المرة الرأسمالية الأمريكية ذاتها ، وبخاصة في ظل ما سادها من كابوس مرعب تمثل في وباء  " كوفيد - 19 " سيبقى على الأرجح جاثماً على صدور البشرية طوال العام الجديد 2021 ، وإن بصورة أخف بعد اكتشاف وتصنيع عدد من اللقاحات  المضادة لها ، هي أطول سني العقدين الماضيين ليس بحساب الزمن ، بل بحجم كما ذكرنا كثرة وتزاحم أحداثها الجسام ، حتى يُخال للمرء  إذا ما حاول أن يستذكر واحداً منها يشعر  بأنه وقع منذ زمن بعيد لا خلال عام واحد فقط .  ففي أواخر ديسمبر / كانون الأول 2019 كان العالم يمني النفس بالتفاؤل بالعام الجميل رقماً 2020 ، لكن سرعان ما تسربت حينئذ على استحياء الأخبار المشؤومة الواردة من الصين بتفشي كورونا في مدينة " ووهان " ، لكن ذلك لم يمنع الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب من استغلال الحدث للشماتة بشعب الصين الاشتراكية وتوظيفه في الحرب النفسية عليها واتهامها بتصنيع الوباء الذي أرتد عليها حسب مزاعمهم ، كل هذا والعالم برمته أحوج ما يكون فيه لإرساء دعائم السلام بالنظر لما يسوده من توترات وحروب إقليمية .

 وما أن انتهى يناير كانون الثاني حتى تمدد الوباء إلى دول عديدة، وبانتهاء مارس / آذار كان قد أطبق على معظم بلدان العالم من بينها دول اوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف لنا أن نقتنع بما وصلت إليه البشرية، سيما دولها الصناعية الغربية منها، من تقدم وقفزة مذهلة في مضامير التطور العلمي والتكنولوجي، بأنها كانت جميعها عاجزة عن توقع انتقال الجائحة إلى بلدانها، لا بل إلى مختلف أصقاع الأرض؟ ومن ثم عدم أخذ أقصى التحوطات الممكنة المسبقة لمنع تسلل الوباء إلى بلدانها؟ أما كان من الممكن في ضوء ما توصل إليه المجتمع الدولي من تطور هائل في منظومته الدولية الإنسانية والانمائية تحت مظلة الأمم الدولية ووكالاتها المتخصصة، وبخاصة منظمة الصحة العالمية العمل وفق خطة تعاون دولية محكمة لمحاصرة الوباء في مهده وهو في الصين والتعاون مع سلطاتها للقضاء عليه سريعاً قبل تمدده إلى العالم؟ لماذا وقف العالم الغربي متفرجاً وبدا وكأن تفادي انتقال الوباء إلى بلدانه وبلدان العالم مهمة أشبه بالمعجزة المستحيلة فوق قدرة حسابات العلماء والعلم؟ لا يفسر غياب خطة دولية كهذه سوى طغيان الأنانية الرأسمالية وتقديم مصالحها الضيقة فوق مصالح السواد الأعظم من شعوبها وشعوب العالم، صغيرها وكبيرها. وهكذا فبدلاً من أن يوحد هذا العدو المشترك للبشرية المتمثل في " كورونا " الدول المتقدمة الرأسمالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ووضع أيديها في يد الصين الشعبية معاً للتصدي له وإبادته داخل الصين قبل تمدده إلى خارجها قامت تلك الطول باستغلاله لتأجيج حرب باردة ضدها، كما قامت بدفع حليفاتها في عالمنا العربي بإذكاء حروب اقليمية قائمة ناهيك عن مناطق التوتر الاخرى من العالم. لكن ورغم ما شهده العالم من حرب باردة بين هاتين القوتين العظميين النوويتين طوال ما يقرب من نصف قرن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى مطلع التسعينيات إثر انهيار الاتحاد السوفياتي فإنها لا تقارن البتة بالحجم المهول بما شهده من حرب باردة خلال العقدين الماضيين ، وعلى الأخص خلال عقدنا الأخير حتى رأينا كيف وصلت إلى ذروتها خلال سنته الأخيرة المنصرمة للتو حيث لعبت أمريكا الترامبية ومازالت تلعب بما تبقى لرئيسها المهزوم انتخابياً من فترة رئاسية انتقالية الدور الأكبر  في تأجيجها وتهديد السلم العالمي بجر العالم إلى حافة الهاوية النووية  . ولو كان هذا الرئيس الأخرق المصاب بلوثة جنون العظمة هو على سدة الحكم في البيت الأبيض لا المغدور جون كيندي إبان أزمة الصواريخ النووية السوفييتية في كوبا لما كان سيتردد عن ارتكاب حماقة بدفع العالم برمته من خلالها في أتون محرقة نووية كونية. وهو خطر ما برح يهدد العالم إن لم تسارع قوى الخير والسلم والديمقراطية إلى تنظيم وتوحيد صفوفها لمواجهة ذلك الغول الجهنمي.

عرض مقالات: