من الصعب الإجابة على هذا السؤال المعقد في مقال واحد والسبب يعود إلى الطريق المتعثر الذي رافق تلك العملية منذ البداية، حيث جرت الأمور من سيء إلى أسوأ وتكسرت الفرحة في صدور العراقيين الذين استبشروا خيراً بانهيار الدكتاتورية البغيضة غير المأسوف عليها، ولأنها أيضاً سارت في نفق مظلم لا يمكن الخروج منه وأنها أثبتت يوما بعد آخر بأنها ولدت ميتة، لأنها بنيت على أسس خاطئة ومنذ الوهلة الاولى، ولم يعد هناك من يختلف على ذلك، بما فيهم اللاعبون الرئيسيون فيها.

 كيف لا، ما دام من وضع لبناتها  الأولى المحتل الأمريكي حين دنست جحافله تربة العراق الطاهرة عام 2003 تحت شعار تحرير العراق، وعملاً بنصيحة شريكه البريطاني صاحب الخبرة الأولى في احتلال العراق عام 1917 إبان الحرب العالمية الأولى  والذي اعتمد مبدأ " فرق تسد" ودخل تحت شعاره الكاذب بأنهُ  "محرراً وليس غازياً" من أجل بسط نفوذه، ونجح إلى حد ما في ذلك، إلا أن يقضة أبناء شعبنا  الغيارى،  أفسدت أحلامه المريضة، فكانت ثورة العشرين التي أجبرت المحتل على إعادة النظر بطريقة حكمه المباشر وأبدلته بالحكم غير المباشر وقامت بتنصيب الملك فيصل الأول وأسست مجلس أمة والتي كانت عبارة عن هياكل لا نفع فيها للشعب وقد وصفها الشاعر معروف الرصافي  بقصيدة بعنوان " أنـا بـالحـكـومـة والسـيـاسـة أعرف " التي جسدت حقيقة الوضع حين قال فيها  "  

عَــــلَم ودســــتـــور ومـــجـــلس أمـــة

كــل عــن المـعـنـى الصـحـيـح مـحـرف

أســمــاء ليـس لنـا سـوى ألفـاظـهـا

أمــا مــعــانــيــهـا فـليـسـت تـعـرف”.

إن سلسلة الحراك الشعبي الواسع الذي تجسد في التظاهرات والوثبات الذي شمل العراق من أقصاه إلى أقصاه فكان اضراب عمال نفط كركوك حيث قامت السلطة الحاكمة بارتكاب جريمتها الشنيعة  بإطلاق النار على العمال المضربين وقد عرفت هذه الجريمة  بمذبحة " كاورباغي " وكانت وثبة كانون وإضراب عمال الموانئ والسكك إلى جانب عمال المهن الأخرى والطلاب والتي تكللت بتكاتف ابناء القوات المسلحة ممثلة بأبنائها الشرفاء التي أجهزت على رموز الاحتلال والحكومة العميلة للاستعمار صبيحة الرابع عشر من تموز عام  1958 التي أعادت الهيبة للوطن واستعادت سيادته وعززت كرامة المواطن من خلال تأمينها للحياة الحرة الكريمة حين انتزعت من المحتل هيمنته على الثروة الوطنية وأخرجت العراق  من حلف بغداد سيء الصيت وانتشلت الفقراء والمعدمين من العوز وأمنت لهم حياة حرة كريمة من خلال المباشرة في تنفيذ المشاريع العمرانية وتأسيس قاعدة رصينة للبنية التحتية وحفظت للعراق هيبته وسيادته على ثرواته الوطنية، وكانت في طريقها الى تحقيق المزيد من المكاسب على طريق وضع العراق في صفوف الدول الرائدة من خلال تشريع القوانين، كقانون الأحوال المدنية الذي أُعد من أكثر القوانين المتطورة،  واستوزرت أول وزيرة في تاريخ المنطقة والوطن العربي وهي الشخصية الوطنية المعروفة " نزيه الدليمي" وكذلك سن قانون العمل وقاون النفط رقم 80 الذي أعاد للعراق سيادته على ثروته،  إلا أن اذناب الاستعمار والقوى الرجعية المتحالفة معه وأزلام البعث المقبور تحالفت لإجهاض الثورة الفتية، واصطفوا مع الشيطان لضرب هذه التجربة الرائدة، وكما ورد على لسان احد ازلامهم "على صالح السعدي" بأنهم " جاءوا بقطار امريكي " وأقول بدعم بريطاني ملموس.

وبالعودة للحديث عن ما أطلق عليها بالعملية السياسية فإنها وباختصار شديد، قد كرست حكم الأحزاب الطائفية والقومية وأنتجت اكثر من دكتاتور، استمدت خبرتها من ابشع ما تميز به النظام الدكتاتوري المقبور، بحيث اصبحت هناك اقطاعيات تحت مسميات الكتل والتحالفات المذهبية وهي في حقيقة الأمر لا تمت للمذهب بصلة سوى الأسم كي تخدع ابناء شعبنا الطيبين تحت ما سموه بالمظلومية، وهي في حقيقة الأمر قد كرست الظلم والقهر والحرمان بأبشع صوره منذ اللحظة الأولى التي تربعت فيها على دست الحكم، بدليل انعدام  الخدمات في جميع المستويات وانهيار الأمن وتفشي عصابات الجريمة المنظمة والسلاح المنفلت وعلى جميع الأصعدة، وأصبح أكثر من ثلث سكان العراق تحت مستوى الفقر في وقت يتمتع القابضون على السلطة بثروات هائلة، و تذهب جميع ثروات الوطن الى جيوب الطبقة السياسية الحاكمة، ومن هنا يمكننا القول" إن أفق العملية السياسية معتم وملبد بعواصف قد تكتسح الجميع في طريقها"، ما دام اللاعبون الرئيسيون يتحركون على أساس النهج الطائفي والقومي الذي دمر النسيج الوطني وأجهز على الهوية الوطنية، "فهل يصلح العطار ما افسده الدهر"، إذ أن القوى السياسية والكتل والائتلافات والتيارات التي تسلقت الحكم بمباركة الاحتلال وبالدعم الإيراني، قد استنفدت كل اساليبها خلال السبعة عشر عاماً الماضية، ولم تعد قادرة على اعادة انتاج نفسها رغم محاولاتها اليائسة، وسعيها الى تسويق نفسها من خلال ترهيب الناس وبالأعتماد على أذرعها المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها إلى جانب استخدام  المال السياسي لشراء الذمم،  إلا أن ذلك سوف لن يجدي نفعاً ما دامت جمرة انتفاضة تشرين وهاجة، وان دم شهداء الانتفاضة سوف لن يذهب هدراً.  

عرض مقالات: