رحل الصادق المهدي، آخر رئيس وزراء منتخب في السودان، مساء الخميس الماضي في دولة الامارات العربية، ودفن في مقابر الاسرة بام درمان عن عمر يناهز 85 عاماً. وقد نقل جثمانه في جنازة رسمية، كان في استقبالها بمطار الخرطوم رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وودعه الى مثواه الاخير عشرات آلاف من انصاره ومريديه وجمع غفير من السودانيون في ظل احترازات جائحة كرونا.
ولد السيد الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي، حفيد مفجر اول ثورة وطنية ضد الاستعمار التركي، في حي العباسية بام درمان عام، 1935 ودرس في المدارس الانجيلية والاحفاد الثانوية وجامعة الخرطوم، ونال درجة الماجستير من جامعة اوكسفورد.
تقلد منصب رئيس الوزراء في العام 1965 وهو لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره، وجرى ذلك بعد تعديل للدستور، لان حزبه كان وقتها يملك الاغلبية في البرلمان، في سابقة استقبلت باستهجان كبير وسط معارضيه. وفي عهده شهدت البلاد اول انتهاك للدستور، بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان وايقاف صحيفته عن الصدور. وهو قرار اعلنت المحكمة العليا عدم دستوريته، ولكن الحكومة برئاسة المهدي مضت في انفاذه مما دفع رئيس المحكمة وقتها السيد بابكر عوض الله الى تقديم استقالته.
انقلب عليه في العام 1969 العقيد جعفر النميري، واعلن وقتها عمه الامام الهادي المهدي رئيس كيان الانصار المقاومة المسلحة ضد النظام الجديد من مقر اقامته في جزيرة (ابا)، على النيل الابيض جنوب الخرطوم، والتي قاد منها جدهم الامام محمد احمد المهدي الثورة المهدية في وجه الحكم التركي عام 1881. لكن قوات الحكومة احتلت الجزيرة وطاردت الهادي وقتلته على الحدود الاثيوبية.
تقلد الصادق المهدي رئاسة حزب الامة بعد هذا التاريخ، ليواصل كفاح عمه من خارج السودان وبدعم ليبي، يعاونه الشريف حسين الهندي من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وعثمان خالد مضوي من حركة الاخوان المسلمين. وكونت التنظيمات الثلاثة الجبهة الوطنية، التي قامت بهجوم على الخرطوم عام 1976 من الحدود الليبية، تمكنت الحكومة من دحره.
عاد الصادق الي السودان ووقع مع نظام النميري المصالحة الوطنية عام 1977 في مدينة بورتسودان الساحلية. وبموجبها تقلد مناصب قيادية، ولكنه اختلف مع النميري بعد مساندة الاخير للرئيس المصري الراحل انور السادات في اتفاقية كامب ديفيد، فاودع سجن كوبر الذي اخرجته منه ثورة ابريل 1985 التي اطاحت بالحكم الديكتاتوري.
في عام 1986 انتخب رئيساً للوزراء بعد ان فاز حزبه في 100 دائرة انتخابية. وشهدت فترة حكمه اضطرابات عديدة بسبب استمرار الحرب في الجنوب وتفاقم الضائقة المعيشية نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية للحكومة. فاتسع النشاط النقابي وعمت الاضرابات والمظاهرات كل انحاء البلاد مما مهد الطريق لانقلاب البشير. والقت سلطات الانقلاب القبض عليه وادخلته السجن.
بعد اطلاق سراحه غادر البلاد الى (اريتريا) متخفياً في عملية نوعية نفذها حزبه واطلق عليها اسم (تهتدون). واصبح جزءا من العمل المسلح في شرق السودان، ونفذت قواته عدة عمليات. ولكنه لم يتفق مع الفصائل اليسارية في التجمع الوطني الديمقراطي خاصة الحركة الشعبية. فعاد الى الخرطوم بعد توقيعه مع الحكومة اتفاق (نداء الوطن). وقال البشير في لقاء تلفزيوني عن هذا الاتفاق ان حده الاقصى المشاركة في السلطة، وحده الادنى التعايش بسلام. فاختار الصادق الحد الادنى واصبح جزءا من المعارضة الداخلية. لكن تيارات في الحزب كانت تتلهف للمشاركة في السلطة، فخرج عليه ابن عمه وحامل اختامه مبارك الفاضل المهدي وشارك في السلطة كمستشار في القصر، وتبعته مجموعة من كوادر الحزب القيادية والوسيطة.
ووقع حزب الامة لاحقا على كل مواثيق المعارضة التي تنادي باستعادة الديمقراطية، وشارك في الحراك الذي انتظم الساحة السياسية حتى سقوط النظام في 11ابريل عام 2019.
وللمهدي اسهامات فكرية مهمة، وقد رفد المكتبة السودانية بحوالي 100 كتاب. واجتهد كثيراً في ان يوفق بين المدنية المعاصرة والكيان التقليدي الذي يتزعمه. واطلق على تلك المحاولة اسم (جدلية الاصل والعصر). وكان صاحب حضور مميز في مختلف مجالات الحياة الفنية والادبية والرياضية، الى جانب حضوره الخارجي كعضو في الوسطية الاسلامية ونادي مدريد للرؤساء. واتسم بقدرة فائقة على احتمال الخلاف والصبر عليه.

عرض مقالات: