لنبدأ خطواتنا الأولى

كتب كارل ماركس، وهو في سن السابعة والعشرين، في أطروحات عن فيورباخ، أو موضوعات عن فيورباخ إن «الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره».

ورغم أطروحته هذه، أمضى ماركس وصديقه «عازف الكمان الثاني» كما يحلو لفريدريك إنجلز وصف نفسه، حياتهما في تفسير العالم، حيث قاما بملء آلاف الصفحات، عاما بعد عام. ليصل حجم أعمالهما، المنشورة في حياتهما فقط، وليس جميعها، 50 مجلدا، بمعدل 600 صفحة لكل مجلد منها (Marx-Engels Collected Work) أو ما يعرف اختصارا MECW.

لنحسبها سوية: إذا قرأ شخص ما 50 صفحة في الساعة، وبمعدل 8 ساعات يوميا فسوف يستغرق الأمر ما يقرب من ثلاثة أشهر ليتصفحها بالكامل. وأنا افترض هنا إنه متفرغ للقراءة وليس لديه أي عمل آخر، ولكن، لو كان يقرأ في وقت فراغه فقط، لأستغرق الأمر سنوات عدة. وحتى لو نجح في تكريس نفسه لمجرد معرفة تفسيرات ماركس وأنجلز للعالم، فلن يتبقى له سوى القليل من الوقت لتغيير أي شيء، ناهيك عن تغيير العالم بأسره. المسألة صعبة كما ترون، لا بل إنها مستحيلة.

الأسوأ من ذلك، ثمة العديد من كتابات ماركس (خاصة ماركس – على الأقل ان أنجلز يكتب عموما بأسلوب أكثر مباشرة) تكون فيها قراءة 50 صفحة في الساعة، وفهم أي شيء على الإطلاق أمرا غير وارد. على سبيل المثال، في نهاية الفصل الأول من كتابهما المشترك العائلة المقدسة أو نقد النقد النقدي، وهو مؤلف يتضمن جدالا هجائيا هجوميا ضد صديق ماركس السابق، الفيلسوف الديني الألماني برونو باور، كتب الاثنان ما يلي:

(من ترجمة الدكتور رزق الله هيلان، ومراجعة أنطون مقدسي)

«ومن البدهي - والتاريخ الذي يثبت كل ما هو بدهي، يثبت كذلك ما يلي - أن النقد لا يتحول الى جمهور لكي يبقى جمهورا، بل لكي يخلص الجمهور من طبيعته الكثيفة كجمهور، وبالتالي من اجل إلغاء اللغة الشعبية لدى الجمهور بدمجها في لغة النقد النقدي النقدية».

ونفس الفقرة (من ترجمة حنا عبود، ومراجعة الدكتور فؤاد أيوب)

«من الواضح وضوحا ذاتيا – والتاريخ الذي يثبت كل شيء واضح ذاتيا، يثبت هذا ايضا – ان النقد لم يصبح جمهورا ليبقى جمهورا، بل ليعتق الجمهور من كثافته الضخمة، أي ليرتفع بالطريقة الشعبية في التكلم الى اللغة النقدية للنقد النقدي»

«بدهي»؟ «واضح»؟ كيف؟ ثلاثة أسئلة ستقفز الى ذهننا، ثم سنقول لأنفسنا كما تقول الفنانة آلاء حسين (...حظي).

لكن الحال ليس هكذا دائما. نعم، كتابات ماركس وانجلز تتسم بسعتها وبتعقيد وصعوبة مواضيعها، لكنها غير محصورة بقلة قليلة من الخبراء والمختصين ممن يمتلكون الفرصة لفهمها. فالكثير من أعمالهما كانت، وماتزال، تمثل تحديا، غير أنها واضحة بما يكفي ليفهمها أي شخص تقريبا (أي شخص واعٍ يرفض الرأسمالية، أي شخص يرغب ببناء جنته على الأرض)، وهي قادرة على ان تجعلنا ننفجر ضاحكين أو باكين. حسبنا قراءة كلام ماركس ضد لويس بونابرت ودفاعه عن الكومونيين في الحرب الأهلية في فرنسا.

أذن، لنشارك لينين سؤاله «ما العمل؟»

لحسن الحظ، فإن جبل ماركس ليس مخيفا كما يبدو للوهلة الأولى.

يمكننا ان نطرح من الأعمال الكاملة التي ذكرناها آنفا (الحقيقة أنها غير كاملة لأنها تضم فقط الأعمال التي نشراها في حياتهما)، اثني عشر مجلداً، وكذلك أجزاء كبيرة من مجلدات أخرى، تضم الرسائل بينهما، أو مع طرف ثالث، رغم ان هذه الرسائل تحتوي على رؤى رائعة وتستحق القراءة، ولكن يجب القول أيضا، إن ماركس وإنجلز كانا يكاتبان بعضهما البعض كل يوم تقريبا، وأحيانا يرسلان رسالتين يوميا. وبالتالي، فإن آلاف صفحات المراسلات بينهما، كانت، غالبا، أشبه برسائل الفيسبوك التي تصلنا في وقت متأخر من الليل. أنتم أحرار طبعا في قراءتها جميعا، لكنني أعتقد أنه من الآمن تخطي الجزء الأكبر حاليا على الأقل. علاوة على ذلك، هناك مئات الصفحات من قصائد الحب ومسودات المسرحيات الرومانسية وحتى رواية كتبها ماركس عندما كان مراهقا، يمكننا تركها جانبا.

ثم هناك حقيقة ان ماركس كان - تذكروا أن هذا كان قبل أيام الكتابة والتنقيح السهل على الكمبيوتر - يقوم بنسخ صفحات كاملة من فلاسفة واقتصاديين آخرين، ثم كتابة تعليقات طويلة على هذه المقاطع، التي كان يستخدمها لإعداد المقالات والكتب في صيغتها النهائية. وكان يحتفظ بدفاتر خاصة بذلك. هذه كلها تضم أدلة مهمة تجيب على سؤال: كيف طور ماركس أفكاره؟  لكن الكثير منها لم تكن بهدف النشر مطلقا، إنها لتوضيح الأمور لنفسه هو. خذوا مثلا كتاب الغروندريسة، المتكون من سبعة دفاتر تغطي حوالي 800 صفحة، استخدمها ماركس من أجل إعداد مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي. ان قراءة الغروندريسة تقدم رؤى إضافية لكل من يرغب في فهم تطور فكره الذي وضعه في تحفته رأس المال، والأخير أكثر من كافٍ على الأقل بالنسبة للشخص غير المتخصص.

سأحاول تقديم نوع من الدليل، أو الخيط المرشد، في مقالات قصيرة، لقراءة أعمال هذين المفكّرين الثوريين العظيمين. ولن يكون هدفي هو التعليق على كل كلمة، بل سأسعى الى تقديم إطار، تاريخي - نظري، للتغلب على بعض العقبات التي تقف في طريق فهم أفضل، وتقدير أعمق، لأهم أعمال ماركس وإنجلز.

في حال الرغبة في معرفة المزيد عن حياة ماركس وإنجلز، الشخصية والسياسية على حد سواء، والاطلاع على تاريخ أهم الأحداث العالمية والشخصية خلال فترة كتابتهما لأعمالهما، فإن أفضل مكان للبدء هو كتاب كارل ماركس وولادة المجتمع الحديث لميخائيل هاينريخ، الصادر عن دار (المدى).

سنبدأ أولا بالحديث عن جورج فريدريك هيغل، وأعتقد أن بالإمكان اكتساب فكرة جيدة عن الديالكتيك بمجرد قراءة الفقرات الأربع الأولى من مقدمة كتابه فينومينولوجيا الروح أو ظاهريات الروح. تذكروا: لا ألم.. لا مغنم.

ان ماركس وإنجلز هما نتاج عصرهما، وبالتالي، ربما هناك من يقول ان بعض أفكارهما قد شاخت، لكن لنتذكر دائما، انهما عاشا وناضلا خلال فترة المراهقة لعصر مايزال يشكّل حياتنا اليوم - عصر الرأسمالية. وهكذا، فإن إدراكنا لكيفية فهمهما لما كانا يواجهان، والنظريات التي وضعاها لوصف الرأسمالية ونقدها، والاستراتيجيات التي توصلا إليها للخلاص منها، كل ذلك، لا يزال يحتفظ بحيوية وأهمية مدهشة في عصرنا.

يكفي مثال واحد.. إذا كنا نرغب في اكتساب رؤية أعمق للثورات والانتفاضات التي جرت ولا زالت تجري في تونس ومصر والعراق ولبنان، لنقرأ كتاب ماركس الثامن عشر من برومير لويس بونابرت. بالطبع، ثمة أكثر من قرن ونصف، والبحر الأبيض المتوسط بمياهه الزرقاء، يفصل باريس عام 1848 عن تونس والقاهرة عام 2011 وعن بغداد منذ عام 2015، وبيروت منذ عام 2019، لكن ماركس فهم، ما لم يفهمه آخرون، ما الذي يوحد مثل هذه المواقف عبر المكان والزمان.

لهذا السبب مايزال بإمكاننا تعلم الكثير منه، لهذا تستحق قراءة ماركس وإنجلز، الجهد المبذول. فلنقرأهما معا.

 

عرض مقالات: