على الرغم من أن كارل ماركس لم ينشر أي نظرية خاصة بالهجرة، لكن أعماله تتضمن مفاهيم مفصلة حول نزوح العمل نحو المدن؛ إذ ذكر أن وجود القوى العاملة الكبيرة في المناطق الحضرية كان له دور حاسم في تطور التراكم الرأسمالي والأسلوب الرأسمالي للإنتاج. فتراكم رأس المال يقتضي، ضمنيا، وجود فائض القيمة، ويستلزم فائض القيمة الإنتاج الرأسمالي؛ ويستلزم الإنتاج وجودا مسبقا لكميات كبيرة من رأس المال وقوى عاملة تكون في متناول يد منتجي السلع. ووفقا لماركس، كان هذا ممكنا عن طريق نزوح العمالة (هجرة العمالة).

وقد ساهم فصل الفلاحين والمستأجرين عن الشروط الموضوعية للعمل، مثل الأرض والوسائل الأخرى للمعيشة، بدرجة كبيرة، في التطور الرأسمالي. ولم يسمح هذا فقط للزراعة الرأسمالية ذات الحجم الكبير وإنتاج المواشي بالتطور، وانما دفع أيضا الفلاحين إلى ترك أراضيهم، فارضا عليهم التوجه نحو المدن، وهذه العملية تولد هجرة العمالة. وقد سهل نمو المدن الصناعية هذه العملية، التي وفرت وسائل هروب هؤلاء الفلاحين المحررين من العلاقات الإقطاعية، والذين صادر الفلاحون الكبار أراضيهم. ومن السخرية أن جعلت مثل هذه الحرية الاجتماعية العمل يعتمد على رأس المال الذي أجبر العمل على التوجه إلى مواقع ثانوية في علاقاته الإنتاجية، مع تركز رأس المال في المناطق الحضرية المتوسعة.        

أشار ماركس، أيضا، إلى أن الهجرة عملت على استقرار معدل الأجور في المدن أو خَفضه، وسمح توليد الفائض الاجتماعي (فائض القيمة) بتراكم رأس المال. وأضاف أنه جنبا إلى جنب مع مصادرة ممتلكات الفلاحين المعتمدين على أنفسهم استمر تحطيم الصناعة المحلية الريفية، واستمرت عملية التفاوت الاجتماعي والجغرافي بين الصناعة في المدن والزراعة في الريف. وهي عملية كانت أساسية لتغذية هجرة العمالة. وقد أعطى تحطيم الصناعة الريفية السوق الداخلية للبلد توسعا وتناسقا يتطلبهما أسلوب الإنتاج الرأسمالي. (1)

باختصار، فحص ماركس الهجرة من ناحية أدوارها الإنتاجية، حيث كان المهاجرون عاملا مشاركا في الإنتاج؛ إذ كان نصيبهم يتقرر من جانب الطلب الرأسمالي على العمل. لقد ظهرت الهجرة كاستجابة منهجية مشروطة للبنية الاجتماعية-الاقتصادية والتحولات الناتجة عن تقدم عملية الإنتاج المادي الذي تميزت به الزراعة الرأسمالية بحجمها الكبير في المناطق الريفية، وزيادة تركز التصنيع (رأس المال الصناعي) في المناطق الحضرية. لذلك، فإن زيادة التقسيم المكاني للزراعة والصناعة (أو الريف والحضر)، مع ما صاحبها من تغيرات اقتصادية، حفزت على توجه تيارات الهجرة نحو المراكز الحضرية، أو أجبرتها على ذلك.     

وعلى الرغم من قلة تعرض ماركس للهجرة، كما أشرنا، فإن مفاهيمه هي في الواقع وثيقة الصلة بالموضوع، إذا تمت إعادة صياغتها على نحو ملائم، حيث تقدم إطارا نظريا سليما لتحليل الهجرة المعاصرة. والجدير بالذكر أنه قد تم تطوير الإطار الهيكلي لهذه المفاهيم لتحلل الهجرة المعاصرة في البلدان الأقل نموا.(2) وفي ما يتعلق بالجانب الأخير، اشار ماركس في القرن التاسع عشر إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص الفائض من البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام.(3) وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع، عن طريق استعمار البلدان الأوروبية للكثير من البلدان، خصوصا النامية منها.

   من هنا يلاحظ أن النظام الاقتصادي العالمي، الذي يشكل الاقتصاد الوطني جزءاً مكوناً له، يتيح تناول حركية العمل الدولية موضوع بحث واستقصاء. فهذه المقاربة تنطلق من فرضية قوامها أنه لا يمكن إدراك الهجرة الدولية من دون ربطها بمنظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ فهي من إنتاج هذه المنظومة والتحولات التي حدثت في بنية هذا الاقتصاد وقسمة العمل الدولية.

تهيئ الهجرة بين البلدان المستعمِرة والمستعمرات، وبين مستعمَرة وأخرى، الشروط لانطلاق هجرات جديدة؛ فالهجرة الآتية من البلدان الأولى، مثلاً، ستهيئ “التربة الخصبة” لنمو هجرة معاكسة من المستعمرات نحو المتروبولات الأوروبية. وقد أطلق إقدام النظام الرأسمالي على تحطيم حدوده الوطنية عن طريق الاستعمار، صيرورة إزالة الطابع الوطني عن قوة العمل، وبذلك تكون قد أرسيت أسس انبثاق مجال لسوق العمل، ستكون له آثار حاسمة على المدى البعيد.(4) وهذا ما نلاحظ  تجلياته حتى الوقت الحاضر في حالة البلدان العربية التي ارتبط اقتصادها بقوة باقتصاد بريطانيا وفرنسا، ولا سيما في فترة الحكم الاستعماري. 

لا يمكن دراسة الهجرة الدولية، من دون تحليل تطور تقسيم العمل الدولي المرتبط بنشأة النظام الرأسمالي وتطوره، لا في الدول الرأسمالية المتطورة فحسب، بل أيضا في البلدان التي زُرعت فيها الرأسمالية بطريقة مبتورة ومشوهة(5) حتى صارت دولاً “متخلفة”. ومن المعلوم أن أحد الشروط الأساسية اللازمة لبدء عملية الإنتاج الرأسمالية هو وجود قوة عمل محررة من أي علاقة إنتاج سابقة للرأسمالية يمكن أن تغني عن الاضطرار إلى بيع قوة العمل. وحصل ذلك بالتدريج من خلال نزع ملكية الفلاحين وتحطيم الصناعة التقليدية، واتخذت تلك الصيرورة التاريخية في الدول المتخلفة وسائل عدة، من بينها، مثلاً، الاستعمار العسكري المباشر أو آلية التبادل اللا متكافئ،(6) وهذا ما ينطبق إلى حد كبير على البلدان النامية ومنها العربية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 Nanda R. Shrestha, “A structural perspective on labour migration in underdeveloped countries,” in: Vaughan Robinson,  (ed.) Geography and Migration (Cheltenham and Brookfield: An Elgar Reference Collection, 1996),  p.464.

2 - Ibid., p. 465.

3 - ورويك موراي، جغرافيات العولمة: قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ترجمة سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة 397 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013)، ص 42.

4 - أنظر: صالح ياسر حسن، العلاقات الاقتصادية الدولية: الأبستمولوجيا، الأنطولوجيا، الأكسيولوجيا (بغداد: دار الرواد للطباعة والنشر، 2006)، ص 379-380.

5 - لم  تظهر في الدول النامية عناصر المجتمع الحديث إلى حيز الوجود، بوصفها قاعدة عامة، من التطور الذاتي الداخلي للمجتمع من خلال الانفصال التدريجي عن المجتمع القديم، بل إنها مثل الأشكال الرأسمالية الجديدة للاقتصاد، فرضت من الخارج، من دون أن تكون لها أي علاقة عضوية سابقة، نشأت في مفاصل بنية المجتمع القديم بعيدا عن تدخل البيئة الخارجية. إن اختراق الرأسمالية الأجنبية، الذي أخذ طريقه عموما من خلال أوضاع العدوان الاستعماري، عرقل التطور الطبيعي وتحول المجتمعات الأصلية، جاعلا من المتعذر- على نحو قطعي - أن تأخذ هذه العملية مجراها وتتطور بوتيرة تقررها القوانين الداخلية وتطورها، أنظر: 

Jozsef Nyilas (ed.),Theory and Practice of Development in The Third World, Istvan Veges (trans.), (Leyden and Budapest: A. W. Sijthoff/ Akademiai Kiado, 1977), pp. 125-126. 

6 - حسن، ص 380-381.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقتطف من كتاب سيصدر لاحقا بعنوان “العالم العربي: بحوث في الهجرة الدولية ونظرياتها”.

عرض مقالات: