زيارتي الثانية لبغداد بعد هجرتي الطويلة عنها مرغما كانت عام 2014 كنت فيها متشوقا لشارع المتنبي، حاولت البحث عن حقيقة ما شاهدته على خلفية الصور التلفزيونية التي أطالعها عن الشارع والتي كانت تبثها محطات التلفزيون، استهواني زحام ووجوه الناس البشوشة الفرحة، وبالقدر ذاته كانت رغبتي جامحة للحصول على مطبوع تستطيبه روحي. رحت أذرع الشارع طولا وعرضا ولمرات عديدة. التقيت أصدقاء وأحبة عفتهم زمن القحط واللؤم والفزع الأكبر. احتضنتهم واحتضنوني وكأن أحدنا يتوسد صدر أخ فك أسره أو شفي من مرض عضال. في كل عطفة وعند أي مجموعة كتب تتلاقى العيون ثم يضج بالسؤال، "فرات، مو صحيح لو أني غلطان"؟ ويبدأ نبش الذاكرة واستحضار الحوادث، كل ذلك مثل لي إعادة ترتيب أوراق كنت قد فقدتها ووجدت بعضها عند هؤلاء الأصحاب وتلك الأماكن.
اليوم تذكرت شارع المتنبي وأنا أراقب حملات أمانة العاصمة لرفع التجاوزات والكتل الكونكريتية عن باقي شوارع العاصمة في محاولة لوضع حد للعبثية والتشوهات التي فرضت نفسها على طول وعرض بغداد، وباقي مدن العراق لتقدم صورة قبيحة عن بؤس الإنسان ولؤمه تجاه وطنه، وتفسيره القبيح للحرية التي قدمتها له بسخاء وكرم مفرطين يد الأمريكان على طبق من خبث مغموس بالفوضى الخلاقة.
منذ عام 2008 وبعد التفجير اللئيم الذي تعرض له الشارع ولحد اللحظة ونحن في النصف الأول من عام 2018 وعلى طول وعرض تلك الأيام والسنوات، شاهدت كميات كبيرة من أفلام وصور وبرامج كانت ولازالت تعد وتخرج داخل شارع المتنبي، أشاهدها فأتألم للكثير منها وتصيبني الكآبة وأرثي لحال الثقافة والمآل الذي أصبح عليه الشارع وكيف بات مسكونا بفوضى عارمة.
الشارع ببضاعته المتنوعة عبارة عن فوضى عارمة، يفترشه من المتر الأول حتى نهايته عند مسناية النهر خراب عجيب مؤلم، كتب كدست وفرشت فوق أرض الشارع بعد أن سيطرت المحلات أو ما يسمى بالمكاتب على رصيف المشاة لتمنع المرور خلاله وتجبر الناس السير وسط الشارع، ليصبح الرصيف بعد ذلك ملكا حلالا بلالا لا يحق لغير أصحاب تلك المحلات والمكاتب الادعاء بملكيته، أو القول أن هناك رصيف كان سابقا يسمى رصيف مشاة. وهذه الأرصفة يتمتع بملكيتها أصحاب المكاتب والدكاكين بقرار أتخذ من قبلهم واتفقوا على دفع المقسوم إلى جهة حكومية ما أو غير حكومية، والتي نجهل من تكون، ولهذا منحوا حق التصرف بالرصيف دون مساءلة، فإن لم يستغلوه لصالحهم، يقومون بتأجيره لأصحاب البسطيات.
المثقفون فرحون وهم يذرعون الشارع ويخترقون زحامه وضجيجه بحثا عن لقية أدبية أو صديق قديم أو حتى جليس مقهى لبضع دقائق. المهم هو اللقاء وتبادل الابتسامات أو المعلومة وارتشاف شاي ساخن في القيصرية أو مقهى الشابندر أو أحد الأرصفة وممارسة الدردشة بصوت أشبه بالزعيق عند تناول صحن لبلبي أو شرب قدح شاي لكثرة اللغط والضجيج الذي يطغي على المكان.
يستغني الناس عن الرصيف بحثا عن بضاعة تروق لهم وهذا يحدث في جميع مناطق بغداد، ومثلها شارع المتنبي ففيه تتوفر القرطاسية والكتب بمختلف مسمياتها وسط الشارع، وأيضا هناك بائع اللبلبي والباقلاء والشلغم والشربت والسميط والسجاير والحلويات والكبة والسبح مقهى سفري، والشارع مرشح في المستقبل ليكون مكانا لمهن جديدة تظهر لتنتفع من هرجه وتوارد الناس عليه لشتى الأسباب، يأتي في مؤخرتها شراء كتاب، وربما ستكون الغلبة مستقبلا لهذه المهن على حساب انحسار عرض الكتب ونهاية مسمى شارع الثقافة.
فالشارع بات موقعا للقاء الأصدقاء والكثير من عامة الناس ومن بينهم بعض المشاهير. وتقام في توابعه مهرجانات وندوات واستعراضات جميلة أن كانت في دار المدى أو داخل القيصرية حيث المركز الثقافي البغدادي التابع لأمانة العاصمة أم في ساحة القشلة الترابية المهملة والبعيدة جدا عن العناية العائدة لوزارة الثقافة. فعموم الشارع أصبح يشكل مركزا ثقافيا كبيرا، وهناك عند نهايته جوار تمثال المتنبي يستطيع المرء ركوب العوامة بصحبة عائلته والذهاب في جولة ترفيهية نهرية. العجيب أن كل تلك الوقائع يكون يوم الجمعة قمة احتفاليتها، ولكن دون ترتيب وعناية فالجميع يغني ليلاه دون اهتمام بالأخر.
من الممكن أن يصبح هذا الشارع وتوابعه بمجموعها تابعا لجهة واحدة، وتؤلف له لجنة خاصة باسم "جمعة المتنبي" تتكفل وتدير شؤونه كمركز ثقافي حقيقي، بتخطيط علمي حضاري وتحرص هذه اللجنة على تنسيق فعاليات الجهات العديدة التي تريد تنفيذ فعالياتها، على أن يكون التنسيق بعيدا عن العشوائية والبدائية. وتعتني هذه اللجنة بتوزيع الفعاليات وتوقيتاتها وتنضم لها برامج ومواعيد وتخصص وتحدد لها أماكن معينة. وقبل ذلك من المناسب أن يعتنى بالشارع نفسه حيث تفرض شروط على أصحاب المكاتب ومثلهم عربات الطعام لوضع عروض مناسبة وجميلة وذكية لواجهات محلاتهم. أيضا تضع شروطا يكون فيها عرض الكتب في المكتبات أومن قبل باعة الشارع بعيدا عن هذه الارتجالية والعبثية التي تقضم الرصيف ومثله ما يقارب الثلاثة أرباع الشارع لصالح الكتب المفروشة والمرمية بقباحة وهمجية وعشوائية، والتي باتت تسبب الإحراج والزحام والتصادم بين البشر الغادين والرائحين فوق ما يقارب المتر من عرض الشارع الذي لم تترك البسطات العشوائية منه سوى تلك الفسحة الصغيرة لسير المئات من الناس. هذه الكتب المفروشة وسط الشارع بهذه العبثية، أن وجدت لها رفوف خشبية على شكل مكتبات عمودية أو مناضد تعرض عينات مختارة منها لكان المنظر دالا على الوعي والتحضر والنظافة واحترام المعرفة وتقديرا للكتاب وصاحبه ومن يتعاطاه وأيضا من يمارس بيعه.على أن لا تقضم تلك المعارض الخشبية مساحة كبيرة من الشارع مثلما يفعله أصحاب البسطات الآن، وأن تكون نموذجا يطوى عند نهاية العرض.عندها يختفي الزحام وتسهل حركة الناس وتكثر المبيعات وتقل السرقات ويكون للشارع جمال خاص.
في الدول المتحضرة يحرص أصحاب المكتبات وروادها وباعة الكتب وهواة العلوم والمعرفة على احترام الكتاب وبالمقابل احترام القارئ، لذا يخصص يوما مفتوحا لبيع الكتب فتوضع بمختلف أنواعها واختصاصاتها وطبيعتها فوق مناضد خشبية تتوسط الشارع ليجد الناس ضالتهم فيها من جانبي المنضدة وجهتي الشارع ويختارون ما يعجبهم من حديث الكتب وقديمها، وفي نهاية الوقت المخصص توضع الكتب في صناديقها وترفع المناضد ليكون الشارع خاليا نظيفا، ويحرص أصحاب المحال والمكاتب على أن لا يتركوا وراءهم فضلات أي كان نوعها.
لو اهتمت وزارة الثقافة وبمشاركة أمانة بغداد لجعل شارع المتنبي مركزا ثقافيا عراقيا، ولو بذلت الجهود وبالتشاور مع أصحاب المكتبات والمحال وأيضا مالكي البسطات وبإشراك البعض من المثقفين المهتمين بتوفير المعرفة للجمهور، لوضع خطة شاملة لتحسين طبيعة وشكل الشارع وتنظيمه تنظيما جيدا لرفع مكانته وجعله قبلة لطالبي المعرفة، ورافعة للوعي الجماهيري ومنظرا حضاريا ووجها من وجوه بغداد البديعة، لتفتخر بنظافته ونموذجه وتحضره وجماليته الثقافة العراقية ومعها أبناء العراق .

عرض مقالات: