تكمن أهمية هبة أكتوبر بطرح العودة الدائمة إلى الشارع كآلية للحسم السياسي. ولكنها بالأساس شكلت حالة خروج من السبات التي فرضته علينا مرحلة أوسلو والتي جمدت وساهمت في تجريم كل فعل مقاوم مهما كان متواضعا...

أن تكتب عن حدث شهدته وكنت جزءا منه ليس بالأمر الهيّن- ولكنه ضروري، لأنه يساهم في بناء تفاصيل الرواية ويضيء جوانب مخفية أو أقل مركزية؛ لذا، كتب هذا المقال بأسلوب يضم شهادتي الشخصية على أحداث أكتوبر 2000، والتي أكتبها لأول مرة بإسهاب ومصارحة.

وقعت، خلال العشرين السنة الماضية، العديد من المواجهات التي لم ترتق لمستوى هبة أكتوبر، لكنها أثبتت أن يد الشرطة الإسرائيلية على الزناد خفيفة جدا. ولأنني لا أستبعد أبدا مواجهة أكبر وأوسع في المستقبل أكتب هذا المقال- في محاولة مني للإجابة على ثلاثة أسئلة مركزية ترتكز على الدروس المستقاة من أكتوبر2000.

أولاً: كيف يُوظَّف الغضب؟

“مثل أي قرية ومدينة خرج أهالي حيفا، بعد أن هزّتهم صور الطفل محمد الدرة وهو يستشهد في بث حي ومباشر، إلى الشارع في مظاهرة كبيرة طافت المدينة. انطلقت المظاهرة من شارع عباس وكان الهدف أن تجوب المنطقة العربية في حيفا لتجنيد الناس على الطريق- كان الهتاف الأساسي: “يا جماهير انضموا إلينا شعب بلادي غالي علينا” يصعد إلى شرفات البيوت وكانت العيون تلتقي لتشكل عقدا اجتماعيا جديدا ممزوجا بالصمت والذهول والغضب. بحر من الناس ينضم ويسير ببطء، أنظر خلفي وأرى وجوها، فقط وجوه. وصلت المظاهرة إلى مفرق الأمم، لتنحرف إلى شارع الخوري وهناك بعد أن مررنا بالزاوية الأولى المتفرّعة إلى شارع ألنبي انطلق عدد كبير من الشرطة بهراواتهم وخوذاتهم وقُسّمت المظاهرة. أصبح القسم الأول الذي يقوم بوظيفة الهتاف والتي تولاها الشباب والصبايا بمواجهة القسم الثاني الذي علق بين مفرق الأمم وشارع الجبل. فعليا أصبح الأبناء الذين تصدّروا المظاهرة والآباء في مواجهة بعض. وجدت نفسي مع أختي نيفين ورفيقنا إيهاب بجانب البناية الكبيرة المهجّرة التي تحمل جملة “أنا أحب حيفا”. وبمواجهة صف كامل من الشرطة.

التقف إيهاب حجرا وحيدا وجده صدفة وهمَّ برميه، كان وجه والده العم بشارة بشعره الأبيض أمامه، تجمّد إيهاب لوهلة خوفا من أن يصيبه، ليصيح به والده “أضرب يا ابن العرص”.

تشير الكثير من الأبحاث الى أن الغضب والشعور بالظلم هما عاملان أساسيان لفعل المقاومة، وهو ما يدفع الجماهير إلى الخروج إلى الشارع للتعبير عن غضبها وللمطالبة بحقوقها وبتحقيق مطالبها. وهنا يأتي دور القيادة السياسية، أو قيادة الحراك، التي يجب أن تكون جاهزة لوضع المطالب المرادة... وهذا ما لم تكن القيادة السياسية الفلسطينية في الداخل جاهزة له. من الممكن تفسير ذلك بسبب حالة الذهول والصدمة من استعمال الرصاص الحي وسقوط الشهداء؛ أضف إلى عدم توقع استمرار الغضب الشعبي والجماهيري الذي امتد على فترة أيام. يوجد أيضا سبب إضافي ومهم وهو السلوك السياسي للأقليات المقموعة عندما تكون في حالة خطر كبير، والتي عادة ما تتبنى السلوك المدافع عن نفسه. وهذا بالفعل ما قامت به القيادة السياسية الفلسطينية في الداخل مع تزايد سقوط الشهداء في هبة أكتوبر حيث أن التوجه المهيمن هدف إلى حقن الدماء ومنع سقوط شهداء إضافيين وهو أمر مفهوم لكنه تناقض مع توجه الشارع الغاضب الذي كان من الممكن استثماره كورقة ضغط. في حال نشوب هبّة مستقبلاً- الـ متى والكيف سؤالان متوازيان. بمعنى على القيادة الفلسطينية في الداخل أن تكون جاهزة بمطالب سياسية، مستعملةً المد والغضب في الشارع. وهذا ما يضعني أمام السؤال الثاني حول موضوع المسؤولية.

ثانيًا: من يتحمل مسؤولية المشاركة؟

“بعد أن فصلتنا عن المظاهرة الكبيرة، بدأت الشرطة بالركض نحونا وبدأنا نحن بالركض باتجاه شارع الخوري، مقابلنا كانت مجموعة أخرى تركض نحونا، كانوا جيراننا يحتفلون بخطوبة ابنهم. كان المنظر مضحكا حدّ البكاء أن ترى الجميع يركض بالفساتين الطويلة وربطات العنق. أدركنا أن الشرطة قادمة أيضا من اتجاه “الشيكيم” أو “عمارة القزاز” كما يسميها كثيرون منا. إذن، فنحن محاصرون فعليا والمنفذ الوحيد كان الدخول إلى وادي النسناس بمداخله الضيقة. أثناء ذلك فتحت سيدة ستينية بيتها والذي تحول اليوم إلى عمارة، وأدخلتنا إلى ساحة المنزل لتخبأنا. شكرناها كثيرا خلال حديثها بأنها وحيدة وأن كل عائلتها في لبنان وبأنها تخاف أن يقطعوا التأمين عنها ومع هذا فهي لن تتركنا وستحمينا”.

يخرج الأفراد للمشاركة في المظاهرات أو أي عمل مقاوم لرغبة فردية تعرف ضمن المقاومة الأخلاقية التي تعرف بأنها عدم مقدرة الفرد على الوقوف جانبا وعدم تبني موقف عند إدراكه للظلم الواقع- فبهذا يكون قد كسر حواجز كثيرة، أهمها الخوف، وهذا ما حصل في أكتوبر 2000. إذن، فإن المسؤولية الكاملة تقع على الفرد الذي اتخذ قرار المشاركة وخصوصا أن المشاركة تسبب له رضى نفسيا. لكن المجتمعات الجماعية والتي ينتمي إليها المجتمع العربي وبالتالي الفلسطيني، يتصرف بطريقة أخرى... هذا يضعنا أمام سؤال مهم: في حال حدوث مواجهات مع الشرطة وتكرار سيناريو شبيه بهبة أكتوبر- من المسؤول عن إرجاع الناس إلى بيوتها مثلا؟ هل القيادي السياسي أم أن الفرد المتواجد في الشارع قادر على تحمل مسؤولية قراره وبالتالي دفع الثمن الذي من الممكن أن يكلّفه حياته؟

في أكتوبر 2000 قامت القيادة السياسية بتحمّل مسؤولية هذا القرار وحدها. اتهمها البعض بالتخاذل وحمّلها مسؤولية لجم الشارع الذي كان يغلي... لكن، إن تناولنا الجانب التطبيقي، فإن أحد التحديات المركزية في حال اندلاع هبّة مستقبلاً، هو إيجاد التوازنات بين الجماعي والفردي، خصوصا في ظل سياق عالمي يتسم بالفردانية والذي أثّر بشكل أكبر على مبنى مجتمعنا ككل وتغلغل أيضا إلى العمل المقاوم والسياسي. صحيح أن التنسيق الحزبي مهم – لكن التنسيق مع الشارع يشكل تحديا كبيرا في هذه الحالة.

ثالثًا: كيف يجب أن نُحاسِب؟

“كانت والدتي خارج البناية في انتظارنا، رأيتها تصرخ على امرأة تصب القهوة لأفراد الشرطة “بقتلوناوبتشرّبيهن قهوة!”... كل فترة المحاكم واظبت أمي على الخروج باكرا مع حقيبتها المليئة بالساندويشات التي حضّرتها لتوزعها على المتظاهرين أمام المحكمة، مرددة سوف نبقى وراهم وراهم إلى أن يعاقبوا.”

ربما هي أكثر نقطة من الممكن التحضير لها مسبقا. أثبتت هبة أكتوبر أننا نملك كمجتمع كما هائلا من المحامين والمحاميات والمؤسسات الحقوقية للمرافعة في هذه القضايا، بالأساس “عدالة”- المركز القانوني لحماية الأقلية العربية في إسرائيل. السؤال هو، أين؟ تحت أي سقف يجب المطالبة بالمحاسبة، ومن هي الهيئة التي من شأنها أن تبت في جرائم دولة.

هبة أكتوبر علمتنا درسا كبيرا بخصوص المحاسبة السياسية والقانونية، حيث أن لجنة التحقيق الحكومية (لجنة أور) لم تملك أي سلطة أو تأثير فعلي على سير التحقيق الذي كان تحت إطار ماحاش (الهيئة المسؤولة عن التحقيق مع أفراد الشرطة). لم تقدم أي لائحة اتهام ضد أي شرطي، وأغلقت ماحاش جميع الملفات. ومع التغيرات السياسية في إسرائيل والتي ترينا بأن محكمة العدل العليا فقدت هيبتها وقانونيتها، فإن وظيفة الحقوقيين اليوم تتمحور في فحص سبل أخرى لمحاسبة إسرائيل عند قمعها أقلية أو مواطنيها، مرتكزين على حقوق الأقليات في القانون الدولي والذي كتب عنه بشكل موسع من قبل حقوقيين وأكاديميين وسياسيين. فعليا، يجب الانتقال إلى مرحلة التطبيق وتشكيل استراتيجية سياسية-حقوقية جاهزة يعمل بها خارجيا بالموازاة مع النشاط الداخلي.

ماذا تغيّر بعد عشرين عاما؟

ما تغيّر هو التجربة. نحن اليوم نملك تجربة على صعيد المواجهة في الشارع، على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الحقوقي. وعلى أساس هذه التجربة يجب علينا التحرك. هبة أكتوبر علمتنا أننا في خطر دائم، وبأن الوقت قنبلة موقوتة. علمتنا أن ثمن النزول إلى الشارع كبير ومؤلم؛ وأكثر من ذلك- علمتنا معنى الخسارة.  لذا يتوجب التمعن في كيفية تحويل التضحيات القادمة، والتي ستأتي، إلى إنجازات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناشطة سياسية وأكاديمية مختصة في العلوم السياسية، تعمل مع عدة مراكز أبحاث وهي محللة سياسية في شبكة السياسات الفلسطينية.

(مقتطفات ضافية)

عرض مقالات: