لا يشكل الخلاف الذي نشب اخيراً  وسط النخبة السودانية حول التطبيع مع دولة العدو الصهيوني، خلافاً فكرياً وسياسياً له جذوره في التربة السودانية. فقد ظل موقف اهل السودان ثابتاً الى جانب حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، الى ان جاء صعود الحركة الاسلامية الى السلطة متحزمة بالعروبة والاسلام. 

وقد تعاملت الحركة بهذه الكيفية  مع ازمة وطنية ناتجة في الاساس عن اختلالات في التنمية غير المتوازية، مما انتج فقراً ملوناً في بلاد تقوم تركيبتها السكانية على التنوع العرقي والثقافي والديني. حيث تعيش القومية التي تدعي الانتماء الى العروبة والاسلام في ما يعرف بمثلث التنمية او المثلث الذهبي الذي يشمل الخرطوم كوستي سنار، وعرف في عهد البشير باسم مثلث حمدي اول وزير مالية في تلك الحكومة، والذي طالب بتركيز التنمية في هذه المنطقة، حيث توجد المشاريع الزراعية المروية ودائرة الطرق البرية والحديدية التي تربط  وسط السودان بميناء التصدير. في حين تنحسر التنمية على ضآلتها عن كل اطراف السودان، التي تسكنها شعوب تقول عن نفسها انها افريقية، في بلاد عرفت التمازج بين الاجناس كما عرفت الاختلاف منذ اكثر من 6 الف سنة.

لذلك اسقطت المجموعات المتضررة من حكم النخب النيلية والوسطية سخطها على كامل المجموعة السكانية،  بل  وتمدد هذا السخط ليشمل مكونها الثقافي والديني والعرقي، والذي يعتقد البعض انه متوهم.

هذا الى جانب الاقليم الجنوبي ومنطقة جبال النوبة، اللتين عزلتهما سياسة المناطق المقفلة الاستعمارية.

لكل ذلك وجدت النظرية السياسية القائمة على صراع الحضارت ارضاَ خصبة في هذا الخلاف.  كما وجدت فيه السياسة الخارجية الامريكية ضالتها لتركيع دولة البشير، حتى تلتزم بتنفيذ كامل اجندتها في محاربة الارهاب والتعاون المخابراتي وتكوين قوة الافريكوم وتبنى سياسة السوق الحر. وسارعت الخارجية الامريكية الى تسمية الصراع في اقليم دارفور بانه صراع بين العرب المسلمين والافارقة ، كما وصفت سياسة الارض المحروقة التي اتبعتها حكومة البشير بانها ابادة تقوم بها المجموعة العربية الاسلامية ضد القبائل الزنجية الافريقية.

لكن حتى المجموعات النيلية والوسطية التي ظل التزامها ثابتا تجاه القضية الفلسطينية، وظل اليسار السوداني بشقيه العربي والماركسي ينظر اليها كقضية تحرر وطني ضد الامبريالية العالمية بقيادة امريكا، كما ظل ينظر الى اسرائيل كدولة زرعتها الرأسمالية في جسد المنطقة لتعويق حركات التحرر الوطني العربية ، ظهرت اتجاهات وسط الرأي العام تنظر الى القضية كفاتورة مكلفة ظل يدفعها الشعب السوداني مقابل تلقي القروض وغضب الشركات ومؤسسات التمويل  عليه. وتمدد هذا الاتجاه حتى  وصل الى حزب المؤتمر الوطني ابان اشتداد الازمة الاقتصادية، فنادى بعض النواب المحسوبين على الحزب بالتطبيع مع دولة اسرائيل حتى ترضى امريكا عنهم.  لكن الخارجية السودانية وقتها  اعلنت نفي اي توجه لها في هذا الخصوص. واكدت موقفها وموقف الشعب السوداني الى جانب الشعب الفلسطيني.

ويبدو ان  الموقف ذاته يتردد الان في سبيل البحث عن حل للازمة الاقتصادية، ظناً من دعاة هذا الاتجاه ان القروض والمعونات سوف تنهال على البلاد لمجرد الاعلان عن التطبيع. ويجد هذا التفكير صدى له في قمة السلطة ، فقد اكد البرهان رئيس مجلس السيادة عقب لقائه مع رئيس الكيان الصهيوني في (عنتبي)  انه سوف يطرق كل السبل من اجل رفاهية شعب السودان.

وهكذا فعند دعاة هذا الاتجاه العابر للمدارس الفكرية من يسار وسط وليبراليين وبعض الاسلاميين، ان حل الازمة الاقتصادية مرتبط  باموالتضخها امريكا في الخزينة السودانية، دون اي جهد تبذله الحكومة السودانية سوى القبول برفع العلم الاسرائيلي في الخرطوم، التي انعقد فيها ذات يوم مؤتمر اللاءات  الثلاث: لا سلام ولاتفاوض ولا صلح مع اسرائيل. وتستعد هذه المجموعات  للقيام بعمل دعائي كبير لحشد الدعم الشعبي لهذا التوجه، لدرجة الاعلان عن وفد من 48 شخصية يتأهب لزيارة اسرائيل، برئاسة نائب برلماني سابق كان على راس الدعوة في المجلس الوطني للتطبيع. وقد اعلنت بعض وسائل الاعلام الاسرائيلي ذلك الاسبوع الماضي. كما ان نجمة داود المعكوفة ظلت تظهر على السيارات الخاصة، لكن لا احد يعيرها انتباهاً وسط ازمة الوقود المستحكمة والتي تجعل المواطنين يسهرون الليالي في الظلام.

الخرطوم

عرض مقالات: