ولد هيغل ونشأ في عصر ثري. حين تفتح وعيه كانت الثورة الفرنسية قد انتصرت، لتترك هي، وأفكار التنوير التي مهدّت لها، أكبر الأثر في تفكيره، وكان الأدب المكتوب بالألمانية يشهد نهضة كبرى. كانت تلك حقبة الشعراء الكبار: جوته وشيللر، وهو نفسه، أي هيغل كان صديقا للشاعر هولدرلين.
لكن لا يمكن فهم هيغل، دون التعرف على وضع الفلسفة الألمانية يومها، التي كان لها الأثر الأكبر في تكوينه الفلسفي، خاصة بما أحدثه كانت من تطوّر بالغ، لا في فلسفة ألمانيا وحدها، وإنما في مجمل الفلسفة العالمية، عبر مؤلفه الشهير: “نقد العقل المحض”، الذي منح فيه العقل ما هو قمين به من تقدير ودور، فالمعرفة لا تصبح ممكنة إلا بفضل العقل الذي ينظم الأشياء ويصنّفها.
لم يعش هيغل طويلا، فقد توفي في الحادية والستين من عمره، بعد مرور عام واحد فقط على انتخابه في العام 1830 رئيسا لجامعة برلين. يومها كتب أحد زملائه: “يا له من فراغ مروِّع! لقد كان حجر الزاوية في جامعتنا”.
الفراغ المروّع الذي شعر به زميل هيغل، وربما بقية زملائه أيضاً، لم يحدث في جامعة برلين وحدها، وإنما في مجمل المشهد الفلسفي في ألمانيا وأوروبا، لكن منجزات الأدمغة الكبرى لا تقاس بأعمار أصحابها، وإنما بالقيمة الحقيقية لهذه المنجزات، التي تظل مضيئة، عابرة للزمن، رغم الفناء السريع لأجسادهم، وهذا يصح تماما على هيغل ومنجزه الذي لا يتقادم.
تشير سيرة كارل ماركس أنه عندما كان طالبا في الجامعة، شكى لأستاذه صعوبة أسلوب هيغل ووعورته وتعقيده، قبل أن يضع رجليه على العتبات الأولى لفلسفة الرجل، ليدرك الفرق بينه ومجايليه وسابقيه، وبخاصة شيلينغ وفيخته وكانت، حيث رأى أنهم “يبحثون عن أرض نائية في الأعالي، بينما يسعى هيغل لفهم ما يراه أمامه في الشارع”.
تنبهنا هذه الإشارة إلى صعوبة وتعقيد المنظومة الفلسفية لهيغل، التي جعلت رجلا بعقل متقدّ مثل ماركس لا يفتن بها في البداية، ويحتاج لوقت كي يمسك بأول المفاتيح لولوجها، حيث انكبّ، فيما بعد، سنوات على دراستها والتمعن فيها، قارئاً لا أعمال هيغل وحده، وإنما مفسري هذه الأعمال؛ لأن هيغل كان جاذبا لعدد كبير من المهتمين بالفلسفة من مختلف أنحاء العالم جاؤوا ليستمعوا له، ثم قاموا، بعد موته، بتحرير دفاتر محاضراته ونشرها، مصحوبة بملاحظاتهم على ما قاله في تلك المحاضرات، وعبر هذه الدفاتر وصلت إلينا أعمال هيغل، مثل: “محاضرات في فلسفة التاريخ”، و”محاضرات في علم الجمال”، و”محاضرات في فلسفة الدين”، وغيرها.
من دون منازع يعتبر هيغل أباً للديالكتيك، ولكن لهذا الديالكتيك جذور في الفلسفة السابقة له، بما في ذلك الفلسفة اليونانية القديمة، وخاصة عند أرسطو، ولكن هيغل طوّر الديالكتيك الأرسطي الذي كان مجرد فن للسجال واستخدام الحجج الاستدلالية لتغليب رأي على رأي آخر، ليجعل منه منهجا تحليليا، مبنيا على التفاعل بين الأفكار المتناقضة، ما ينجم عنه تصورات تتجاوز التناقض، وصولا إلى الفكرة المطلقة أو الكلية.
عنى الديالكتيك، عند هيغل “التنظيم المحكم لقوانين تطور العقل من خلال حركة الفكر”، بعد أن درس قوانين تطور الفكر التي تؤدي إلى الوعي، وحاول أن يجد العلاقة المتبادلة بين الفكر والواقع، ليصل إلى أن الفكرة بدون واقع هي فكرة صورية فارغة لا معنى لها، وتصبح الفكرة حية لها وجودها وامتدادها من خلال الواقع فقط.
كما أن الفكرة، بدورها، تحمل تناقضاتها الداخلية، التي تؤدي إلى نفيها، وظهور فكرة جديدة، فالنفي هو الحامل للحركة داخل الفكرة، وفي بحثه عن العلاقة الجدلية (أو الديالكتيكية) بين الفكر والتاريخ، رأى أن التاريخ هو مادة الفكر، وأن هذا التاريخ، في تطوره، محكوم بقوانين.
لم يقدّر لماركس أن يلتقي هيغل الذي كان قد مات قبل خمس سنوات من مجيئه إلى برلين للدراسة الجامعية، لكنه أصبح أكثر تأثيرا في نفسه من فلاسفة آخرين كانوا يومها أحياء، رأى ماركس، أنهم، رغم ذلك، ينتسبون إلى الماضي، فيما بدا هيغل ابن الحاضر.
وفعلت فلسفة هيغل الفعل نفسه في ذهن شاب آخر هو فريدرك انجلز الذي سيغدو صديقا ورفيقا لماركس وشريكا له في بلورة رؤاه الفكرية والفلسفية التالية، وإذا كان الرجلان تخطيا هيغل في أمور، فإنهما أخذا منه العدة الرؤيوية والمنهجية الأهم في منهجهما، ممثلة في الديالكتيك، بطريقة تسمح بالقول إن الماركسية خرجت، بصورة من الصور، من معطف الهيغلية، وهو أمر لم ينكره ماركس على كل حال، ما يدفع للاستنتاج بأن الماركسية، كمدرسة فكرية، ما كانت ممكنة، على الأقل بالصورة التي عرفت بها، بدون الهيغلية، بدون الديالكتيك تحديدا.
كان على ماركس، ورفيقه إنجلز، أن يميزا بين الفيلسوف الغيبي الذي كانه هيغل الشغوف بدراسة الماورائيات، والعالم المادي والأخلاقي الذي استخدم الطاقات الفكرية في اكتشاف كامل للحقيقة، ليجدا فيه ما يرى، أو يجب أن يُرى في الشارع، ليحدثا تلك النقلة في توظيف المنهج الهيغلي في ما أطلق عليه التفسير المادي للتاريخ، فلم تعد المادة (أو الطبيعة) مجرّد انعكاس ظاهري للعقل، وليست حقيقة موضوعية قائمة بذاتها، الأولوية لها، وليس للفكر كما ذهب إلى ذلك هيغل، الذي رأى أن التاريخ مسرح للثنائية القائمة على تقديم الفكر (الروح) على المادة، وليس العكس.
عن ذلك قال ماركس في (رأس المال): “إن أسلوبي الديالكتيكي هو النقيض المباشر لديالكتيك هيغل. فهيغل يحول عملية التفكير التي يطلق عليها اسم الفكرة إلى ذات مستقلة. إنها خالق العالم الحقيقي، ويجعل العالم الحقيقي مجرد شكل خارجي ظواهري للفكرة. أما أنا، فليس المثال عندي سوى العالم المادي الذي يعكسه الدماغ الإنساني ويترجمه إلى صور وأشكال فكرية”.
فيما اعتمد إنجلز في كتابه (ديالكتيك الطبيعة) على منجزات العلوم الأسياسية كالميكانيك، الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، وقد رأى أن التناقض داخل الظواهر هو الذي يؤدي إلى حركتها، حيث أن الجسم الأصغر حجما في حركة دائمة حول الأكبر.
قلب ماركس، وإنجلز معه، ديالكتيك هيغل رأسا على عقب، وفي ذلك قيلت العبارة الشهيرة: إن ماركس أوقف الديالكتيك على رجليه، بعد أن كان، عند هيغل، مقلوبا على رأسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
البلاد” البحرينية - 27 آب 2020

عرض مقالات: